إلى غاية أسابيع قليلة لم يتوقع الكثيرون في المغرب أن تمتد الاحتجاجات في تونس والجزائر وأن تأخذ أبعادا غير مسبوقة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بالرغم من أن مقدمات تلك الأحداث كانت بارزة، تذكر بالمثل الفرنسي المشهور عندما استعمله الملك الحسن الثاني رحمه الله: من يزرع الريح يحصد العواصف، وكان له الفضل في النأي بالمغرب عن السقوط في دوامة ''النموذج التونسي'' ورفض المشاركة في المؤتمرات التي نظمت لوزراء الداخلية من أجل تسويقه وتعميمه على الصعيد المغاربي، كما كان اعتماد المفهوم الجديد للسلطة مع مجيء الملك محمد السادس للحكم تعبيرا واضحا عن مواصلة هذا النهج. وللأسف، فإن الكثيرين ممن استصغروا واستبعدوا وبشكل قطعي وقوع مثل تلك الأحداث فإنهم يضعون جدارا عازلا إزاء أي تفكير في أخذ العبرة الحقيقية مما يقع، أو في الانتباه لمخاطر وجود بعض من مقدماته في المغرب، أو في المبادرة إلى مراجعة بعض السياسات التي جرى اعتمادها في السنوات الأخيرة ووضعت المغرب على طريق النموذج التونسي وذلك قبل فوات الأوان، أو على الأقل المبادرة إلى القيام بنقد ذاتي لسعيهم إلى تسويق صورة خادعة عن ذلك النموذج، والذي يترنح اليوم كاشفا عن النتائج المدمرة للقضاء على التعددية واحتكار القرار السياسي ومقايضة الاستبداد المنتج للفاسد بالتنمية الهشة والحداثة الشكلية، وأدت إلى افتقاد الحكم التونسي لوسطاء سياسيين ومدنيين ذوي مصداقية قادرين على ترشيد الاحتجاج الاجتماعي، مما جعل الخيار الأخير للسلطة هو اللجوء إلى الرصاص. ومما يدفع إلى هذا القدر من التشاؤم حول محدودية الاستفادة والعبرة من مآل النموذج التونسي نذكر منها ثلاثة: أولا، النقاش المحتدم بشأن تقرير لجنة تقصي الحقائق حول أحداث العيون، والسعي إلى عدم تحديد المسؤوليات السياسية والحزبية الداخلية، وذلك تحت وهم الخوف من التأثير السلبي على مصداقية الخطاب الذي حصر الأحداث في مناورة انفصالية خارجية، رغم أن الوقائع تؤكد أن المخططات الخارجية ما كان لها أن تجد موطئ قدم في الصحراء لولا أخطاء التدبير الداخلي، كما أن كل سعي لتجاهل المسؤوليات الذاتية سيمثل إضعافا لمصداقية عمل اللجنة بل ويضر بإمكانية استثمار عملها في بناء الثقة والمصالحة والتي أقر باستعجاليتها وخطورة تجاهلها تقرير الوزير الأول أمام اللجنة المركزية لحزب الاستقلال نهاية الأسبوع الماضي. إن من يسعى إلى صياغة تقرير شكلي بدون مصداقية يغامر بمستقبل المنطقة ويخدم عن وعي أو غير وعي استراتيجيات الخصوم لتكرار أحداث العيون. ثانيا، ''حروب'' الإقصاء والترهيب التي تجري أطوارها في عدد من مجالس المدن وتدفعها للشلل والتي ينخرط فيها الحزب السلطوي الجديد، وتوظف في ذلك آليات النموذج التونسي، ولعل المتابع لتطورات الوضع في مجالس عدد من المدن وعلى رأسها مدينة سلا يقف على سعي محموم لاستنبات أدوات اشتغال الحزب الحاكم في تونس هنا في المغرب، في وقت يرى الجميع كيف أنها قادته إلى الاضطراب وعدم الاستقرار. ثالثا، الاستهداف المستمر للمجتمع المدني العصي عن الاحتواء، والمثال البارز هو حالة ترانسبرانسي المغرب والتي منعت للمرة الثالثة من تنظيم حفل تكريمي لفعاليات مغربية عملت على مقاومة الفساد وفضح المتورطين فيه، فبغض النظر عن الاتفاق أو عدم الاتفاق مع استحقاق تلك الشخصيات للتكريم، فإن اللجوء الفج للمنع المستمر يكشف عن حالة ضيق شديد من الاختلاف وحق المجتمع المدني في الممارسة المستقلة. إنها ثلاثة مؤشرات كافية للتنبيه على مخاطر السعي لاستنساخ النموذج التونسي في الوقت الذي بارت سلعته وكسدت في سوق نماذج التحكم والضبط.