يخيل إليك وأنت ترصد المواقف التي اتخذت خلال هذه السنة، أو ما قبلها، وربما السنوات التي سبقت، أن صناعة القرار السياسي في المغرب يؤطرها عقلان: عقل متبصر يستحضر المصالح الوطنية والاستراتيجية، ويشتغل بمنطق الربح والخسارة، ويعتبر بالمآلات المحتملة، ويركز على وحجة التماسك الداخلي، وعقل سياسيوي متهور تحكمه المصالح الضيقة، يضحي أحيانا بالمصالح الوطنية ولا يلقي بالا لما يمكن أن تؤول إليه بعض القرارات المتهورة، وأكثر ما يهمه هو إثارة الزوابع ضد الآخرين ولو كان في ذلك إضعافا للتماسك الداخلي وتمكينا لأجندات خارجية تستثمر ضعف الجبهة الداخلية للدخول على الخط. هناك عشرات من الأمثلة والشواهد التي تبرز فعالية العقل المتبصر الذي تحركه الحكمة ومصلحة الوطن، ليس آخرها إنهاء المحاكمة السياسية لجماعة العدل والإحسان بتمكين أعضائها بفاس من البراءة، وإيقاف الحملة التي كانت بعض الجهات بدأت في شنها ضد العدالة والتنمية على خلفية طلبه معرفة الحقيقة من أحداث 61 ماي التي استغلت ضده ثم الطريقة التي يدار بها اليوم ملف الصحراء، انطلاقا إبعاد المقاربة الأمنية في تفكيك مخيم أكديم إزيك ، وإدماج كل الفاعلين الحقوقيين والإعلاميين والسياسيين بما فيهم ونواب البرلمان وشرائح الشعب في تحمل مسؤولياتهم اتجاه قضيتهم الوطنية من احتواء تداعيات أحداث العيون وتحويلها إلى كسب مغربي في المنتظم الدولي. لكن في الجهة المقابلة، تبرز عشرات الأمثلة، على وجود عقل آخر ليس أقل قوة واشتغالا من العقل المتبصر، تحكمه فقط المصلحة الضيقة، ولا يؤمن بمنطق التشارك، ويدبر بشكل انفرادي وسلطوي، ويخضر في كل المناشط: في المهرجانات الثقافية والفنية من خلال فرض ذوق معين واستبعاد أذواق أخرى بل واستثمار كل ذلك لضرب مكونات سياسية بعينها، في المهرجانات السينمائية من خلال تقريب مخرجين والإنعام عليهم بالدعم ما داموا يركزون على موضوعات وقضايا يرجى أن يكون له دور في استهداف مكونات أو محاصرة قيم وتوجهات، كما يظهر بقوة من خلال الإعلام، بالتحكم في الخط التحريري لبعض الصحف، وشل قدرات أخرى، هذا دون الحديث عن مجال الإشهار، الذي تفرض فيه قيود صارمة على البعض، وتنفتح يد الإكرام على البعض الآخر، كما تتحكم قاعدة الانتماء اللغوي، فمن كان أميل إلى الجهة الفرنكفونية نال الحظ الوافر حتى ولو لم يكن يستهدف إلا شريحة قليلة. ويبرز نشاط هذا العقل أكثر في الحقل السياسي من خلال التحكم في الخريطة السياسية، وإصعاد رموز سياسية، وإسقاط أخرى، وتوجيه الأحزاب ، بل والمؤسسات ضد حزب معين كما حدث ويحدث دائما مع حزب العدالة والتنمية التي تلجأ وزارة الداخلية إلى إنتاج العديد البلاغات ضده وحده دون غيره. هذا دون الحديث عن المجال الاقتصادي الذي يشتغل فيه هذا العقل المتهور بكل فعالية من خلال اعتماد ثنائية الامتياز والعقوبة في التعامل مع المستثمرين الاقتصاديين، بل وفي التعامل أيضا مع المستثمرين الأجانب. وهذا طبعا ما يعكس في كثير من الأحيان التناقض في القرارات التي يتم اتخاذها، والتي تتأرجح بين الحكمة والتبصر وبين التهور والحمق أحيانا، لكن هذه القرارات المتأرجحة والمترردة لا تصدر بشكل عبثي غير قاعد لإطار يفسر زمنية انسياب هذا النوع من القرارات وصدور النوع الآخر. هناك قاعدة تبدو مفسرة لهذا التردد، وقد أكدت كثير من الأحداث المتشابهة اطرادها. ففي اللحظات التي يتعرض فيه المغرب لتحديات كبيرة وبشكل خاص خارجية تكشف هشاشة سياسته ومنهجية تدبيره للعديد من القضايا حينها يختبئ العقل المتهور وتبرز الحكمة والتبصر والنطق التشاركي، لكن في الظروف العادية، التي تغيب فيها التحديات تبرز أكثر الممارسة السياسوية الضيقة التي لا تكتفي بالاستثناء والإقصاء، وإنما تذهب أكثر من ذلك، فتحاول أن تخلق حالة من ''الإجماع'' ضد طرف، حيث يبدو وكأن جهة ما تستمد سيطرتها وتحكمها على كل المناشط من خلال خلق أجواء ''الصراع'' على كل الواجهات لاسيما منه الصراع القيمي لإخفاء مستويات عميقة من التحكم الاقتصادي والسياسي. فقد رأينا حضور العقل المتزن مع أزمة أمينتو حيدر، ورأيناه مع التحديات الخارجية المرتبطة بموجة التنصير التي استهدفت بلادنا، ورأيناه أيضا يشتغل بقوة بعد أحداث العيون، لكن، في المقابل رأينا العقل المتهور يحضر بكثافة في أكثر من ملف خاصة الملفات ذات الارتباط بالرأي العام، وبوجه خاص منهجية التعامل مع وسائل الإعلام، والحملات التي تستهدف أطرافا سياسية بعينها يرجى إضعافها في الاستحقاقات القادمة، ناهيك عن محاولة تصعيد الموقف ضد جماعة العدل والإحسان رغبة في منع أي حصول أي تطور في العلاقة الإيجابية بيم الطرفين الجماعة والسلطة. بكلمة، إنه من الصعب على أي دولة، أن تنجح في رهاناتها الاستراتيجية ما لم يكن العقل الناظم لصناعة قرارها السياسي مسكونا كله بمنطق الحكمة والتبصر وجعل المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار والنظر إلى المآلات. وفي الوقت الذي تتدخل فيه بعض القوى المتنفذة للتأثير على هذه الحكمة والتبصر وتوجيه القرار وجهة أخرى استثمارا لمناخ الرخاء، فإن ذلك يؤثر بشكل كبير على الجبهة الداخلية ويجعلها أضعف في مواجهة التحديات التي تفرض على صناع القرار السياسي الالتجاء إلى الحكمة والتبصر. صحيح أن الأحزاب السياسية، وكل مكونات المجتمع المدني، والشرائح الواسعة تنخرط في مواجهة كل التحديات التي تواجه المغرب، وتتجند وراء صناع القرار السياسي حين تحضر الحكمة والتبصر في قراراتهم، لكن، بدون شك فإن الممارسات والقرارات والسياسات المتهورة التي تنتج في مناخ الرخاء يكون لها أثر كبير في إضعاف المغرب وعرقلة تنميته وتقدمه وتفكيك تماسكه الداخلي، وخلق '' الأقليات'' التي سيكون لها دور خطير في تفكيك الجبهة الداخلية والتمكين للأجندات الأجنبية.