إن التنافس على الدنيا تترتب عليه مخاطر لا تحصى، عندما تصبح الدنيا هي أكبر هم الإنسان الذي يستجمع كثيرا من الخصال المردية، وهذه الخصال واردة في ثنايا هدي حديث نبوي شريف، ولا بأس من التذكير بها: 1 الهم الذي لا ينقطع أبدا: فمن جعل الدنيا همه، ابتعد عن الآخرة ولم تعد شاغله الأول، أو هاجسه الأساسي، ومن ابتعد عن الآخرة، فقد ابتعد عن طريق الحق، وأصبح وهو ليس من الله في شيء، لأن حب الله يقتضي التجرد في عبادته، وحب الدنيا يمنع من هذا التجرد، إن الأصل أن يكون الإنسان في الدنيا كالغريب أو عابر السبيل، فإن غيَّر هذا الأصل، فإنه يبتعد عن طريق الله، وتتسع زاوية هذا البعد كلما ازداد إقبال الإنسان على الدنيا. 2 الشغل الذي لا يتفرغ منه الإنسان أبدا: وهنا يبدأ الإنسان في جمع المال، ثم تعداده، وينشغل باله حتى يكاد يفقد ذاته معه، فيبدأ الصفقة من حيث ينتهي من سابقتها، أو يدخل هذه مع تلك، وتبدأ حسابات الأرباح المادية، ولا يقم أي وزن للخسارة الكبرى، وهي الخسارة العقدية والأخلاقية. وفي غرة الانشغال يتنازل الإنسان عن الخلق القويم والسلوك المستقيم، وهدي الدين، فالرشوة تسمى هدية، ومخالفة الضمير تسمى مسايرة الحال، وإغفال حقوق الفقراء في مال الأغنياء يسمى دعوة لهؤلاء للعمل والكسب، وهكذا تسمى الأشياء بغير أسمائها، وتلبس الحقائق حلل الزيف، ويطغى البهتان، ويستشري الظلم، ولا يصبح لكيان الإنسان قيمة، يعدك المرء يوما ليخلف وعده بعد ساعة، ويسمي هذه الأمور "شطارة" ولا يعلم أنها إحدى سمات المنافقين. وهكذا تطبق الدنيا على الناس، فينشغلون بها انشغالا لا يتفرغون عنه أبدا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 3 الفقر الذي لا يبلغ غناه أبدا: وهنا تحدث المفارقة العجيبة: الفقر في أعظم لحظات الغنى المادي، وياله من فقر عجيب، فقر روحي، بل وفقر مادي، فمن ملك المال ونسي المآل فهو من أفقر خلق الله، ومن ملك المال من غير طريق الحلال فهو أيضا من أفقر خلق الله. ولذا فإن هذه السمة، تقتضي تفكر المسلم كثيرا قبل أن تذهب الدنيا بمن شغلتهم فتسحقهم سحقا عظيما، وتقضي عليهم قضاء مبرما، فما أتعس الغني الفقير، وما أشد تعاسة الغني الذي لا يبلغ درجة الغني الحقيقي أبدا. 4 الأمل الذي لا يبلغ منتهاه أبدا: نعم فإن من أحب الدنيا، تذهب به الآمال كل مذهب فهو لايفيق من حلم بمال، إلا ليحلم بمال آخر، وهكذا تذهب العبادة من القلوب، وتذهب الخشية من الضمائر، ويتوارى الإخلاص من السرائر، فما أتعس الإنسان إذا صار كل أمله أن يأمل فيما لا يبلغ منتهاه أبدا. وياليت الإنسان سأل نفسه، ماذا سيكون إن ملك نصف ثروة الأرض هل سيكون له الخلد؟ كلا. هل سيكون أسعد الناس؟ كلا. هل سيكون أغنى الناس؟ كلا. فقد رأينا أن أغنى خلق الله من حيث المادة، قد يكون أفقر الناس في أمور الدين والعقيدة. فما أصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الطبراني في الأوسط: "من أصبح والدنيا أكبر همه، فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبدا، وشغلا لا يتفرغ منه أبدا، وفقرا لا يبلغ غناه أبدا.. وأملا لايبلغ منتهاه أبدا". مصطفى بلواح