حينما نريد أن نقوم ما أقدم عليه السويسريون من منع بناء المآذن تقويما سليما، فإننا نكون مدعوين إلى تجنب السطحية والسذاجة في الطرح وفي التفسير، فلا ننظر إلى هذا الإجراء على أنه إجراء معزول يدان به الاتجاه اليميني العنصري السويسري دون غيره. والواقع أن هذا القرار الذي أقرته نسبة كبيرة من السويسريين تتجاوز الحجم الحقيقي لليمين العنصري في المجتمع السويسري، هو إجراء يندرج ضمن السياق العام لجملة القرارات الأوروبية التي استهدفت كثيرا مما هو إسلامي في سلوكيات الجالية المسلمة، ابتداء من منع ممارسة شعائر عيد الأضحى، وعدم تمكين الكثير من أفراد الجالية من عطل الأعياد الدينية، مرورا بمنع الحجاب، و منع الهجرة من دول الجنوب، وانتهاء إلى منع الأذان وغير ذلك من الممارسات التي عبر بها بعض الأوروبيين عن مقدار إيمانهم بالتسامح وباحترام حق الغير في المحا فظة على هويته وانتمائه الديني . وحين يطفو على الساحة في هذه المرة قرار منع الأذان في سويسرا التي كانت تعتبر بلدا محايدا وغير مشتبك مع المسلمين في حروب أو توتر، فإنه يجب التفطن إلى أن هذا القرار هو ذات الدور الذي أسند إلى هذا البلد الأوروبي ليؤديه في هذه المرحلة، إسهاما منه في تنفيذ مراحل مشروع التخويف من الإسلام و مطاردته من أوروبا بأسلوب يختلف مظهريا عن أسلوب إيزابيلا و فرديناند ورؤساء محاكم التفتيش في أورويا. والظاهر أن المشتغلين على مشروع التخويف من الإسلام أدركوا أنه ليس من المناسب في هذه المرة إسناد هدا الدور إلى بلد كبير تلقي أحداث التاريخ عليه كثيرا من ظلال التهمة والعداء، لسببين أولهما: أن تلك البلدان قد قامت بجزء من المشروع فيما سبق. و ثانيهما: يتمثل في كون هذه البلدان الأوروبية الصغيرة كالدانمرك و سويسرا لا يمكن أن تتهم بكراهية الإسلام و المسلمين لعدم اشتباكها معهم في مواجهات استعمارية، و لعدم تورطها في حروب دينية معهم، فلذلك تكون أبعد عن تهمة التعصب الديني من غيرها. و يبدو أن إخراج الدور السويسري كان إخراجا مدروسا و متقنا حاول أن يتفادى تداعيات الدور الدانمركي الذي كانت الدولة فيه في المقدمة، وهي المتحمسة و المدافعة عن الرسوم الكاريكاتورية، فلذلك تعرضت إلى الانتقادات على المستوى الرسمي و الشعبي، وواجهت المقاطعة الاقتصادية، ووجدت الدولة نفسها في مأزق دبلوماسي و اقتصادي كبير. أما في حالة الدور السويسري، فقد وضع الاتجاه اليميني في الواجهة، بينما بدت الدولة وكأنها متحفظة وناصحة بعدم إجراء الاستفتاء الذي أرادت أن تقدمه على أنه مشروع يميني خاص، لأنها كانت تدرك أن حياتها تقوم على النشاط البنكي الذي يستفيد من أموال الأثرياء العرب والمسلمين، فوجب عليها أن تتفادى أي رد فعل ينعكس على نشاطها البنكي. والجدير بالملاحظة أن اليمين في سويسرا إذا كان بمقدوره أن يحصل على هذه النسبة العالية من التأييد فقد كان منطقيا أن يكون في سدة الحكم، و في موقع السلطة بناء على هذا الحجم الكبير من الموالاة. والواقع أن موقف الدولة هو في حقيقته اشتراك في المؤامرة بطريقة سلبية تحاول أن تتفادى الخسائر، لأنه لم يكن معقولا في بلد الحريات و حقوق الإنسان و احترام المواثيق الدولية أن يعرض مبدأ الحرية الدينية للاستفتاء مثلما لا يجوز أن يعرض للاستفتاء إن كان من حق المواطن السويسري أن يصادر حق مواطنه المسلم في الحياة، أو يشرده عن مسكنه، أو يصادر أمواله، أو يخرس لسانه، أو يسلبه حريته في الحركة، لأن كل هذه الحقوق هي حقوق أساسية ومكاسب للإنسان الأوروبي، و هي مكفولة بموجب المواثيق والمعاهدات الدولية. إن اشتراك الدولة السويسرية يتمثل في السلبية و العجز والقبول بعرض حقوق ثابتة للاستفتاء والتصويت عليها. لأن الحق الثابت هو نتيجة صيرورة تاريخية و نضالات خاضتها الشعوب الأوروبية إلى أن حصلت عليها، فلم تكن بذلك منحة أو منة من أحد يمكن أن يستردها أو يسلبها متى شاء. و الغريب أن الاستفتاء يقع على شأن ديني في بلد يحرص نظامه المدني على الفصل بين ما هو ديني وما هو مدني. و هو الأمر الذي سيسبب ولا شك مخالفة واضحة حينما ينص عليه الدستور السويسري الذي لا شأن له بشؤون الدين. والأكيد أن إضافة عبارة تنص على منع الأذان في الدستور السويسري سوف تشكل تناقضا صارخا فيه لأن الدستور السويسري ينص وبإصرار في كثير من مواده على ضمان الحرية الدينية خصوصا في مادته الثانية المتعلقة بالمساواة، وفيها يقرر أنه لا يجوز التمييز بين الناس بسبب الأصل أو العرق أو الجنس أو العمر أو اللغة أو الوضع الاجتماعي أو طرق الحياة أو الاعتقاد الديني. وقد أفرد الدستور السويسري المادة 15 منه للحديث عن ما أسماه حرية الضمير والعقيدة، أكد فيه أن الحرية الدينية مكفولة بموجبه. وعلى هذا فإن إقحام أي مادة تعديلية لا يمكن إلا أن تكون إضافة نشازا تشهد على التراجع في القيم التي قامت عليها الدولة الحديثة في أوروبا. إن الاستفتاء السويسري يجب أن يستخلص منه الحقوقيون كيف أن الظلم يمكن أن يلتبس بالعدل، فحين يعتمد أسلوب الاستفتاء وهو آلية من آليات الديمقراطية، فإن الأمر يبدو وجيها، لكن النتائج تكون محسومة سلفا، حينما يجريه شعب ضد فئة منه قليلة العدد، ليمارس عليها إرادته، وليحولها إلى فئة مغلوبة مقهورة، لا تتمتع بمثل ما تمتع به غالبية المواطنين الذين صوتوا في الاستفتاء. ولو أن كل الدول عرضت استفتاءات ضد فئات من مواطنيها لعاد العالم إلى منطق تحكيم الغالب. لقد كان القرآن الكريم هو السباق إلى إدانة منطق الاعتداد بالقوة العددية وبالتمكن من السلطة لإجبار فئة قليلة العدد على القبول والرضا بما لا تؤمن به، وشخص القرآن ذلك في مقالة فرعون التي توجه بها إلى ملئه فقال إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حذرونّ (الشعراء 56). إن وجه الاعتداء على حقوق المسلمين يتمثل في أن غير المسلم أصبح له حق التدخل في تحديد بنية مؤسسة العبادة الإسلامية، وأصبح بإمكانه أن يتصرف في مكوناتها ويصمم هندستها، فلم يعد مستبعدا أن يكون للسويسريين بعد هذا رأي في توفر المساجد على محاريب أو مقاصير للائمة أو منابر للخطبة أو أماكن لصلاة النساء، أو لتعليم القران، أو غيرها من المرافق التي تستوجبها الوظائف التي يقوم بها المسجد. إننا لا نتجاهل أن هنالك من عشاق جلد الذات، المسارعين إلى إرضاء الأوروبيين بتحميل المسلمين كل الأخطاء من يحاول أن يبرئ السويسريين فيقول إن المآذن ليست من ضرورات المساجد، و أن المسجد النبوي لم تكن له مئذنة، ويكفي أن يقال لهذا المتحذلق إن المآذن هي من إضافات الصحابة في العهد الراشدي، وحين رفعوا عليها الأذان فقد أصبحت جزءا من المسجد و سمة من سمات العمران الديني. و حين يدعو السويسريون إلى الاستغناء عن المآذن فإنهم لا يسعون بالتأكيد إلى رد المسجد إلى الوضع النبوي. وإنما يتصرفون بباعث من حقدهم على الإسلام و خوفهم من أن يكون هو التعويض المرتقب عن حالة الإفلاس الديني التي يعيشها المجتمع الأوروبي. والجدير بالإشارة أن يعرف الناس أن المئذنة في المسجد قد مثلت وجها بارزا لتسامح المسلمين، لأن المسلمين أخذوا فكرتها عن صوامع النصارى، و لان النبي صلى الله عليه وسلم تعامل مع الصومعة غير الإسلامية بمنتهى الاحترام حينما أوصى بعدم مقاتلة المنقطعين فيها للعبادة فجعلها بذلك واحات للسلام لا يجوز مقاتلة من فيها. إن قضية الخوف السويسري مما تمثله الصومعة في الفضاء الأوروبي هي مهزلة سخيفة بإخراج رديء لا يمكن أن يقتنع بجديتها أكثر الناس سذاجة، لأنه إذا كان هناك ما يمكن أن يرمز إلى وجود الإسلام واستمراره في أوروبا فهو المسجد الذي تتم في رحابه عمليات التوعية و التعريف بالإسلام و ربط المسلمين بقيمه، وأما الصومعة في المجتمعات الأوروبية خصوصا، فليس لها دور أكبر من أن تكون علامة تشوير تساعد من لا يعرف موقع المسجد على الوصول إليه، وبذلك أصبح دورها أشبه ما يكون بما يؤديه نظام اذس الذي يرشد الناس إلى مقاصدهم في الطريق الذي يسلكونه لا غير. أما مخاصمة بناء والخوف من جدار، فإنه يمثل قمة الانحدار الفكري والضعف الحضاري الذي أعطى إشارة قوية بأن الإسلام مرشح للتوغل في كل تضاعيف الحياة الإنسانية مهما جد أعداؤه في التخويف و الترهيب منه. إننا كنا نعتقد أن الحقد على المساجد كان جزءا من مكونات الفكر الفاشي الذي عبر عنه موسوليني الذي كان يصرح بحقده على المساجد برفضه لبنائها على الأرض الإيطالية، وقد كنا نعتقد أن هذه الرؤية المتزمتة قد ولت وكسحها الفكر الحر، إلا أن هذا الاستفتاء المخجل أعادها إلى الواجهة. وقد كنا نعتقد أيضا أن منطق الحملة الصليبية و خطابات أوربان الثاني قد انتهى زمانها إلى غير رجعة، وحل محلها زمن التواصل الحضاري والتسامح الديني. لكن الحملة الصليبية انبثقت في سويسرا وتبدت في صور اللافتات التي كانت تدعو إلى الموافقة على مشروع اليمين، وقد كانت لتلك اللافتات مضامين صليبية معبرة، يبدو فيها العلم السويسري الذي يتوسطه الصليب و قد علته صوامع أمامها امرأة متنقبة، فكانت هذه الصورة التي تشير إلى معنى استعلاء الإسلام على رمز المسيحية كافية لأن تهيج مشاعر المسيحيين و تجيشهم ضد الإسلام، و ضد المسلمين الذين هم مواطنون يحملون نفس الجنسية التي يحملها المحرضون، فكان هذا يطرح سؤالا كبيرا إذا كان هذا موقف السويسريين مع مواطنيهم، فكيف يمكن أن يكون موقفهم مع الأجانب و هم الذين لا يكفون عن ترديد شعارات التسامح و التعدد الثقافي، و يصفون المسلمين بالتعصب، و برفض الغير؟. وبعد هذا كله، فحين نصل إلى مناقشة جوهر دعوى تمثيل المآذن لرمزية سياسية أو لمشروع تمدد الإسلام، فإننا نسائل السويسريين إن هذا التوجس يصح أن يكون مبررا كافيا للإجهاز على حقوق أساسية للمسلمين. أفلا يحق لنا نحن المسلمين أن تفكر بالطريقة نفسها فنبحث عن كل الرموز غير الإسلامية في بلادنا وهي رموز كثيرة وحاضرة بقوة، منها رمز الصليب الذي يتحرك في شوارع المدينة الإسلامية على واجهات سيارات الإسعاف ويستقر على واجهات الصيدليات ومؤسسات الطب الاستعجالي، وفي رموز الفرق الرياضية الأوروبية. كما أن إداراتنا لا زانت تتوقف عن العمل يوم الأحد الذي هو في الأصل هو يوم عبادة المسيحية، ولا زلنا نعتمد التقويم السنوي الذي يؤرخ بميلاد المسيح عليه السلام، ولا زالت الكنائس تحتل أفضل ساحات مددننا الحديثة، ولا زالت المؤسسات والمراكز الثقافية تنشط بكل قوة في كل بلاد المسلمين، فتلقن ثقافتها وتقصي اللغة الوطنية، وتنشر حضاراتها وقيمها. فهل يجب أن يتصرف المسلمون بنفس الخوف الذي يسكن اليمين السويسري؟. إن الذي يطلب من المسلمين حاليا هو أن يعتبروا بروز هذا الموقف فرصة مناسبة للإعلان عن الموقف الحضاري الذي امتاز به المسلمون لما واجهو وهم في أوج قوتهم وجود رموز غير إسلامية في حياتهم، فتعاملوا معها بكل تسامح وثقة في الذات، فامتنع عمر بن الخطاب عن أن يصلي في كنيسة القيامة حفاظا عليها، وخوفا من أن يدعيها المسلمون بعده، ويخرجوا منها أهلها. وسمح المسلمون ببروز الكنائس وبقائها، ودافعوا عن وجودها، وعاقبوا من أساء إليها، فوجدت في الشرق العربي أكثر من أحد عشر ألف كنيسة. وسمح المسلمون للنصارى بالبروز في الشوارع في أعيادهم الدينية وهم يحملون صلبانهم وينفخون في أبواقهم، ونشأ لدى المسلمين فقه خاص بالكنائس من مفرداته أن غير المسلمين لا يمنعون من بناء معابدهم إذا دعت حاجتهم إليها، وأن ما كان موجودا منها لا يهدم، فأبقى المسلمون على الكنائس القبطية بعد أن استحدثوا مدن القاهرة وغيرها، فأصبحت الكنائس داخل التجمع السكاني للمسلمين. وكان من مفردات هذا الفقه أنه يجوز التصدق على الفقراء من المقيمين في الكنائس والمنقطعين فيها، وكان من الشروط العمرية أن يخصص أهل الكنائس مكانا لإيواء المارة من المسلمين ليتم التواصل داخل الكنائس. إن هذا الفكر الإسلامي المتعلق ببناء دور العبادة وباحترامها وبعدم التدخل في شأنها يصح الآن أن يقدم أنموذجا للسمو الحضاري مقابل التعصب والتشنج الذي عليه اليمين الأوروبي، وهذه المفارقة هي وحدها التي ستحسم الموقف لصالح الإسلام، وليست المآذن والجدران الخرساء.