وقفة تأملية في الحديث الشريف: (لو يعلم العباد ما رمضان، لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان).. هل بإمكان الأمة أن تدرك هذا العلم، أم أنه يستحيل عليها إدراكه؟ سبق التنبيه بإجمال إلى أنه بإمكان الأمة العلم الذي يجعلها تعرف ما رمضان، ويتحقق به المقصود وهو الشعور الإيماني القوي ( لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان).. لنقف عند القضية بشيء من التفصيل.. من المعلوم من الدين والواقع بالضرورة أن رمضان شهر تعبدي واحد من السنة الهجرية، ولم يكن سنة كاملة في وقت من الأوقات، ولن يكونها أبدا، شرعا وواقعا.. وإذا أدرك العباد مكانة رمضان وتعلقوا به، فليس أمامهم إلا أن يتمنوا إقامته بينهم شهرا آخر أو شهرين أو ثلاثة أشهر أو سنة كاملة كما في الحديث. وما هو بباق.. وإذا كان الأمر كذلك فما الحكمة مما جاء في الحديث الشريف..؟ يلاحظ أن العبارة النبوية خرجت مخرجا تربويا معجزا.. فهي تدل على أن العلم الصحيح برمضان ينتج مشاعر طامحة، بعيدة في طموحها، إلى درجة أنها تتمنى صورة مستحيلة الحصول واقعيا، وهي أن تكون السنة كلها رمضان. وإذا تمنت هذه الصورة المستحيلة وأيقنت أنها مستحيلة، فهي لا تحاول التخلص منها كما يتخلص الراشد العاقل من التعلق بالمستحيلات.. بل ليس بإمكانها ذلك، لأن العلم الصحيح برمضان الذي هيج هذه المشاعر الطامحة، واقع قائم لا ينفك.. والمشاعر المصاحبة له قائمة بقيامه، حاضرة بحضوره. قد تغيب عن سهو وغفلة، لكنها لا تغيب متلاشية ومندثرة مرة واحدة بلا عودة.. وأكثر من هذا فإن العقل الإيماني المسلم يحرص على بقاء تلك المشاعر الرمضانية الطامحة حية في قلبه متى أدركها، ويؤلمه تلاشيها أو ضعفها.. وهذا المسلك يعتبر من التقنيات الصميمة للتوجيه التربوي الإسلامي. لأن الشعائر التعبدية قائمة أساسا على علاقة العباد بسيدهم وخالقهم سبحانه وتعالى قياما بحقوقه عليهم. والعباد بعلاقتهم التعبدية هذه ينفتحون على اللامحدود. وعندها تصير معظم الأمور المستحيلة عليهم في عوالمهم الدنيوية المحدودة، ممكنة الحصول بذاتها أو من جهة مقاصدها.. فما لا يستطاع بالعمل، يدرك بصدق نية القلب وقوته الموجبة لمحبة الخير وبغض الشر. وقد يُستدل لهذا بحديث: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) ويُستأنس لبعض وجوه الاستدلال له بالدعاء النبوي الشريف: ((اللهم ما قصر عنه رأيي ولم تبلغه نيتي ولم تبلغه مسألتي من خير وعدته أحدا من خلقك أو خير أنت معطيه أحدا من عبادك، فإني أرغب إليك فيه وأسألك برحمتك يا رب العالمين)).. فالعبد المحسن لعبادته المجتهد في إقامتها بعلم وخشوع وإخلاص، يصيب من فيوضاتها الربانية بقدر علمه وخشوعه وإخلاصه، فينبعث بداخله شوق عارم إلى التفرغ للشعائر التعبدية واعتزال كل ما يشغل عنها من دنيويات.. لكن العلم الصحيح ينبهه إلى ضرورات شرعية وواقعية واجب عليه النهوض إلى خدمتها، وهي في الأجر أعظم قربة من التعبد المحض. فلا يسعه عندها إلا التوجه إليها لكن بقلب مفعم بالتعلق الشديد بالشعائر التعبدية.. فإذا به وهو يخوض في ضرورات الحياة، لا تفارقه أحوال الروحيةِ الإيمانيةِ التي أدركها باجتهاده التعبدي في الصلاة أو الصيام أو الذكر أوغيرها من عبادات؛ يحسها تصاحبه وتلح عليه بالعودة إليها متى انتهى من ضروراته.. بل إن العلم الشرعي الصحيح قد يقوده ليكيف ضروراته الحياتية لتصير عنده كالعبادية فتنتج له ما كان يجده من أحوال سنية في الشعائر التعبدية. وهذا مقام شريف يصير فيه العبد ذا إيمان قوي يسلط فيه إخلاصه على العادات فتصير له عبادات. وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في حق رمضان ((لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان)) ومعنى قوله في الصلاة ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)).. ففي الأولى الأمة تتمنى أن يصير الزمن كله رمضان.. وفي الثانية يصير كل مكان مسجدا في وعي صاحب القلب المعلق بالمساجد ، فيتعاطى مع واقعه وكأنه بين يدي الله في المسجد، فيوفق إلى الصورة القرآنية القائلة: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر)).. وبهذا التعلق الشديد والتمني الرشيد المتولدين بقلوب العباد في رحاب المساجد والأجواء الربانية الرمضانية، تكبر مطالب العباد وتمتد طموحاتهم إلى أبعد الحدود.. وتسموا هممهم عاليا لا يلحقهم إلا من كان على شاكلتهم وسار على نهجهم.. وقد يصدق فيهم ما ساقه ابن تيمية عن بعض الكتب المتقدمة: ((إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته))..