في الحلقتين السابقتين ناقشنا بعض المفاهيم الرياضية مثل الشرود والخشونة واللعبة الرياضية وقواعدها واللعبة السياسية وقواعدها، ورأينا كيف يمكن أن نسقط قواعد التنافس الرياضي على قواعد التنافس السياسي. فكما أن هناك حالات شرود في اللعبة الرياضية هناك حالات شرود في السياسة، وكما أن هناك من يتعاطى للمنشطات في الرياضة لتحقيق إنجازات رياضية مشكوك فيها هناك من يتعاطى للمنشطات السياسية لتسجيل إنجازات فوق مستقر العادة بلغة ابن خلدون. وكما أن هناك حكاما مرتشين ومتحيزين يغمضون أعينهم عن أخطاء وخشونة بعض اللاعبين الدخلاء على اللعبة، والذين ليست لهم اللياقة البدنية؛ فهناك الإدارة المتواطئة التي ترى الفساد الانتخابي على عينك يا بن عدي ومن بن عدي دون أن تحرك ساكنا، وكل ما تقول: أرض المحاكم والقضاء واسعة؛ تماما كما يقول لك حكم تطلب منه إقرار ضربة جزاء أو التحقق من لاعب لا يحق له أن يلعب دونكم وتقديم شكوى للجامعة، وإن لم تكفكم فدونكم الفيفا. ومن تحيز الحكام في الرياضة إنذار فريق كامل لأن لاعبا من لاعبيه لم يمتثل في غفلة منه أو تأويل خاطيء أو في حالة ضغط وخشونة أصابت زميلا له بجروح خطيرة حمل على إثرها إلى المستشفى في حالة غيبوبة لا يدرى مصير صاحبها الصحي؛ فسقط في حالة شرود، مع أن المدرب في الحصص التدريبية قد أعطى دروسا في الحذر من حالة الشرود الذي هو مصيدة من إفشال الهجومات القوية لفريقه. وبطبيعة الحال فالشرود في الرياضة والسياسة واردان لأنهما حالتان بشريتان، وتقدير وضعية الشرود يحتاج إلى يقظة مستمرة، ويكذب كل فريق رياضي أو سياسي أوحكومي يمكن أن يدعي أنه يمكن ممارسة لعبته أو مهامه بصفر حالة شرود بين لاعبيه. وستبدي لكم الأيام إن لم تكن قد أبدت في الماضي. ومن تحيز الحكم في السياسة ـوهو في هذه الحالة وزارة الداخلية ـ مهاجمة حزب بكامله واتهامه بالازدواجية والتشكيك في وطنيته لمجرد أن عضوا من أمانته العامة ذهل وغفل حينا ـ في غمرة العنف الذي ووجه به حق حزبه في عقد تحالفات سياسية لقيادة مجلس بلدي والبلطجة السياسة والعنف الذي قاد إلى كسر جمجمة صديقه ـ فسقط في حالة شرود، وضيع على فريقه تسجيل أهداف واضحة، ونقل فريقه من وضعية الهجوم إلى وضعية الدفاع. إن مراسلة سفارة ولو تحت ضغط العائلة وضغط الوفاء للصداقة شرود وخطأ فادح يتنافي مع قواعد السلوك الحزبي كما عبر عن ذلك بلاغ الأمانة العامة للحزب المذكور، وكما أقر بذلك المعني بالأمر نفسه، واستخلص نتائجه فطلب من المدرب إعفاءه من موقع قيادي في هجوم الفريق، كما أن المكتب المسير للفريق تحمل مسؤوليته كاملة وقرر إعفاء اللاعب، وتلك بلغة الرياضة تسمى الروح الرياضية، وتسمى في السياسة تحمل المسؤولية السياسية أو لنقل الروح الرياضية في السياسة. والسؤال الذي تطرحه هذه السابقة هو ماذا عن المسؤولية السياسية عند لاعبينا السياسيين؟ ماذا عن المسؤولية السياسية عند الفريق الحكومي؟ هل سمعنا في يوم من الأيام وزيرا أو مسؤولا حكوميا يقر بمسؤوليته مثلا في إخفاق سياسة حكومية معينة مثل التعليم أو الصحة والسلامة الطرقية أو انتشار السكن غير اللائق؛ بعد تراجعه أو فشل الفريق الوطني في تحقيق التأهل للمنافسات القارية والدولية في مختلف الألعاب الرياضية؟ لقد وقعت كوارث مثل كارثة احتراق عدد من العمال بمعمل بالدار البيضاء دون أن يتحمل أي وزير المسؤولية بالاستقالة أو لنقل على الأقل بطلب الإعفاء؟ وسقطت عمارة على من فيها دون أن نرى جهة حكومية تتحمل المسؤولية؟ وذهب مواطنون أبرياء ضحايا التدافع بعد ليلة ساهرة من موازين دون أن نجد من يتحمل المسؤولية؟ ومات مواطنون بفعل تهميش قرى واقعة في الجبال من فرص البرد دون أن يستقيل وزير أو مسؤول؟ وتأتي حكومات وتذهب وتجيء أخرى وينبري من داخلها من يعارض سياساتها كما وجدنا خلال الموسم الاجتماعي حين رفضت أحزاب مكونة للحكومة قرار الحكومة بالاقتطاع من أجور الموظفين، ولا تتحمل أي جهة حزبية مسؤولية الأداء أو الإخفاق الحكومي لغياب ثقافة المسؤولية السياسية؟ فأين هي الروح الرياضية في السياسة؟ إن نازلة مكاتبة قيادي في العدالة والتنمية للسفارة الفرنسية في موضوع إنساني يتعلق بالحالة الخطيرة لزميله المحامي نور الدين بوبكر، بقدر ما هي مستنكرة، وتمثل شرودا عن قواعد السلوك بمنطق المسؤولية السياسية، كما تجلت في سلوك الأخ عبد العزيز أفتاتي، فإنها تستحق الفخر والاعتزاز؛ نظرا لما عبر عنه المعني بالأمر من شجاعة ومسؤولية سياسية. أما الذين فتحوا أوداجهم منددين ومحاولين أن يعطوا دروسا في الغيرة الوطنية فنقول لهم مهلا، فإنه ليس من قيمنا أو أخلاقنا استجداء أعتاب السفارات الأجنبية، ولم نر منكم كل هذا اللغط حين أقدم وزير حزبي على طلب اللجوء إلى الجنسية الإسبانية، وحين ذهب ناشط أمازيغوي متعصب يشكو المغرب في بعض المحافل الدولية، ويتقرب من الكيان الصهيوني كي يجد حظوة لدى القوم. وانتظروا فإن من كان بيته من زجاج فلا يرمي بيوت الناس بالحجر. كما أننا لم نجد من يعتبر هذا الخطأ الجسيم، سواء في بيانات الداخلية أو بيانات أحزاب أخرى، هو من تناقضات حزب الاستقلال وازدواجية خطابه، وكيف يفعل ذلك وعمدته على مدينة وجدة ـ ورغم أنه صديق عزيز ـ قد جاء محمولا إليها بهراوات الداخلية، وعلى وقع أنين وجراحات مناضلي العدالة والتنمية وتكسير جماجم بعضهم وربما لا قدر الله على حساب أرواحهم أو إصابتهم بعاهات مستديمة؟ وهكذا؛ بينما عبر أفتاتي عن روح رياضية كبيرة في ممارسة اللعبة السياسة من خلال التعبير عن قدر عال من المسؤولية السياسية، ولم يسلك مسلك التبرير لا هو ولا الحزب الذي ينتمي إليه، فإن سلوكه ذاك يبقى حجة على اللاعبين السياسيين الأساسيين؟ فهل نرى من يقدم استقالته من مسؤولينا في حالة ضبطهم متلبسين بالتطبيع مع خصوم الوطن؟ هل نرى من يقدم استقالته تحملا لمسؤولية تضييع الملك الجماعي أو تفويت الأملاك الوطنية؟ وعشرات الأسئلة التي ستبقى معلقة لأنه لا تزال بيننا وبين ثقافة المسؤولية السياسية بعد المشرق من المغرب. والخلاصة أنه بعد هذه الاسقاطات لقواعد اللعبة الرياضة على قواعد اللعبة السياسية، يتضح لدينا جليا لماذا تتوالي إخفاقاتنا في عالم السياسة كما تتوالي إخفاقاتنا في عالم الرياضة. المشكلة تكمن في أن نجاح الأمم في عالم الرياضة يأتي في حالتين: الحالة الأولى في الأنظمة الشمولية كما هو الحال في فاشية موسوليني ونارية هتلر وديكتارتوية ستالين؛ حين تستخدم الرياضة من قبل الدولة وسيلة لتخدير الشعوب وإلهائها عن مطالبها اليومية وإحياء مشاعر مزيفة من الانتماء الوطني أو الشوفينية الوطنية. الحالة الثانية في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية التي تتحول فيها الرياضة إلى صناعة تخضع لقواعد النجاح الليبراليين، أي لمنطق المنافسة والعرض والطلب ومنطق الدعاية والاستهلاك، والنجاح على هذا المستوى يقتضي قدرا من الديمقراطية، ولو أنها ديمقراطية الذي يملك أكثر، لكنها ومهما يكن من أمر تمتلك مقومات النجاعة، وتنجح في تحويل إعطاء اللعبة جاذبية عابرة للحدود. وفي عالم السياسة أيضا فالنجاعة ترتبط إما بالدول الكليانية التي تسيطر على كل شيء أو بالدول التي تجري فيها لعبة ديمقراطية تحترم قواعد اللعب. المشكلة في المغرب أننا قد اخترنا سياسيا أن لا نكون دولة شمولية، لكننا في المقابل لم نسلك بجدية الطريق إلى الديمقراطية بكامل مقوماتها وباحترام قواعد المنافسة فيها، فقواعد لا تزال مختلطة ومشوشة، والمجال السياسي لا يزال بعيدا عن الروح الرياضية، ومليئا بالخشونة وحالات الشرود وتحيز الحكام، لذلك لا زلنا نراوح مكاننا.