كيف ترون تعاطي الدولة مع ملف المعتقلين على خلفية ما يسمى الإرهاب ؟ أنا لن أجيبك عن حالتي الشخصية، وما تعرضت له من ظلم ومعي والدي وكل عائلتي، لقد تابعتم أطوار المحاكمة الثانية، وكل شيء كان باديا للعيان، لكني سأتكلم عن الملف عامة، لأني عايشته عن قرب، وعشت كل مراحله، وذقت آلامه، وعشت آماله، وتعرفت على خبايا المعتقلين، واتجاهاتهم وتياراتهم ومستوياتهم وأفكارهم. أما بخصوص تعاطي الدولة مع هذا الملف، فالكل يعلم أنه وقت أحداث 16 ماي استغلت جهات في دواليب الدولة الأحداث الشنيعة، والمرفوضة شرعا وعقلا لتمرير مشاريعها، والانتقام من خصومها، وتحقيق مصالحها الخاصة، وهكذا شنت حملات أمنية ، خلطت فيها الحابل بالنابل، ولم تراع فيها أخلاقا أو قوانين، أمام صمت الجميع، الذين أسكتتهم شناعة الأحداث، ودماء الضحايا الأبرياء الذين سقطوا تلك الليلة، فغضّ الجميع الطرف عن عشرات بل مئات من الأبرياء، لا ذنب لهم إلا التدين، والمظهر الإسلامي. والله لا أقول هذا رغبة مني في تحريف الصورة، ولا في خدمة سياق معين، ولكن حالات عشتها، وجلت مع أصحابها، لا علم لهم بشيء سوى أنهم ارتادوا المسجد بحيالسكويلا فجاءت سيارة الشرطة والمصلون يؤدون صلاتهم، واقتادوا كل شاب ملتح، ليُحاكموا بعد ذلك بعشرين سنة. هذا مثال فقط، وإلا فمئات الأمثلة تقاربه وتدانيه. ولقد تحركت الجمعيات الحقوقية بعد هدوء الأوضاع نسبيا، وسجلت كل هذه الخروقات ووثقتها بالشهادات والإفادات اللازمة. لقد بدأ المغرب في عهده الجديد صفحة جديدة بخصوص ملف حقوق الإنسان، استبشر لها الكثير، فأطلقت سراح المعتقلين السياسيين، ورفعت الإقامة عن الشيخ ياسين، وتأسست هيئة الإنصاف والمصالحة، لكن هذه الجهات أبت إلا أن تلطخ هذه الصورة، بل أن تجعلها هباء منثورا، فما معنى كل ذلك وما قيمته بعد أن وقعت الاختطافات والاقتحامات والتعذيب بأنكل أنواع العذاب، وياليت الأمر توقف عند ذلك الحد، بل تلته محاكمات مارطونية، حطمت الرقم القياسي في كل شيء، في زمنها، في شكلها وإجراءاتها، ثم في أحكامها الثقيلة القاسية، مع التحريض والتأليب والتشويه المقصود من قبل التيار العلماني المتطرف المتحالف مع هذه الجهات الأمنية. كنا ضحية حسابات خاصة، وكنا كبش فداء، استعملنا لإتمام سيناريو محبوك، حبك له تنظيمه ومبادئه وممولوه، وأتباعه، ولازلنا إلى اليوم نؤدي ضريبة هذه الحسابات. لكن الذي يؤلمني أكثر، أنه بعد فوات الصدمة، والتي تحملنا فيها ما تحملنا، كنا نأمل تحركا جديا من الدولة، خاصة بعد التصريحات الملكية، لحل الملف وإنصاف المظلومين. لكن ماذا يفترض أن يأتي من جهتكم؟ نحن من جهتنا أرسلنا كل الإشارات المشجعة، من بيانات توضح حقيقة أفكارنا، وحقيقة اعتدالنا، ومن ترحيب بالحوار واستعداد له، وكنا ننتظر ذلك ونأمله لكن دون جدوى، فاضررنا إلى تحريك الرأي العام عبر إضراب عن الطعام استمر سبعة وعشرين يوما، انقطعت فيه أحيانا عن شرب الماء، فتفاعلت الدولة بشكل إيجابي مع هذا الإضراب، وبدأ مسلسل الإفراج عن طريق العفو الملكي، وبلغ عدد المفرج عنهم حوالي الثلاثمائة، ونقضت كثير من الأحكام، واستبشرنا خيرا، لكن هذا الملف أصيب بنكسة. فحين أعلن عن اعتقال مجموعة من الخلايا، توقف العفو، ومحاكم النقض غالبا ما تثبت الأحكام السابقة، واستمر الاحتقان والتوتر داخل السجون، وتوالت الإضرابات والاعتصامات ووقفات الأهالي والعائلات، ومع ذلك لم نتوقف عن الحركة، أملا في تحريك الملف، والتحرك بجدية لإعادة الأمور إلى نصابها. وهكذا ما من مناسبة إلا وأبدينا فيها اعتدالنا وسلامة منهجنا، واستعدادنا للحوار والإ في حل مرض لكل الأطراف، و لما وقعت تفجيرات الدارالبيضاء في مارس وأبريل ,2007 وأصدرت بيانين شهيرين، هدفت من خلالهما التأكيد على موقفي الرافض لكل هذه الأعمال، ليعلم ذلك كل المحبين والمتعاطفين والمتابعين، وليعلم الشباب برائتي وبراءة منهجي من الغلو والحماسة المفرطة غير المحسوبة العواقب، ودعوت من خلال البيانين علماء الأمة إلى الحلول بالمعتقلات والسجون، ليتعرفوا على حقيقة أفكارنا، وخاطبتهم خطابا ينضح أدبا واحتراما وإجلالا يليق بما يحملونه في صدورهم من علم، ثم بعد ذلك لازلنا هنا بمدينة فاس وسجن بوركايز نصدر البيانات تلو البيانات، والمقالات والمشاركات، التي من شأنها تحريك الأطراف المعتدلة والمنصفة في الدولة، لتفعيل مبادرات جدية تنهي هذه الأزمة، مع أني ـ علم الله تعالى ـ ليس هذا هو قصدي الأساس من إصدار هذه البيانات، فهذا فكري ومنهجي، وسأبقى مصرا عليه غير متراجع عنه ولو بقيت في السجن طول حياتي، لكن كان يمكن للمنصفين استغلالها للتحرك لحل الملف، فإلى متى ستستمر معاناة العوائل والأهالي والأبناء، بل ومعاناة المعتقلين أنفسهم، لو تعلق الأمر بتنظيم مسلح، أو جماعة حقيقة ذات مخططات وأهداف لهان الأمر، لأن من يقدم على مثل هذا العمل، لابد وأن يكون متوقعا، بل مستعدا نفسيا لمثل هذا البلاء، لكن حين يكون المعتقل بريئا أو أن تهمته لا تتناسب مع الحكم الثقيل الذي حكم به، وتتآكل طاقته وشبابه بين جدران زنزانة كئيبة وطعام رديء وإجرات أمنية قاسية، فهذا مما لا يرضاه أي عاقل منصف حتى و لو اختلف معك فكريا وإيديولوجيا. ماذا تقترحون على الدولة ؟ لابد من مصالحة بين الدولة والمعتقلين، الطرفان مطالبان بالتحرك، المعتقلون مطالبون بإبداء حسن النية، والتدليل على اعتدال منهجهم وفكرهم، وإظهار الصدق في ذلك. أما من جهة الدولة، فلابد لها من التحرك بجدية، والتفاعل مع الإشارات الصادرة من السجون، والاقتداء والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، ووالله إني لأستغرب كل الاستغراب، فدولة مثل الجزائر، عاشت عشرات السنين من المواجهات، وآلاف القتلى والضحايا، ومع ذلك الدولة هي التي تسارع إلى الحل، وتعرض سياسات المصالحة والوئام المدني، بل أكثر من ذلك، ليبيا أيضا، تبادر إلى المصالحة مع الجماعة المقاتلة الليبية، هذه الجماعة التي ليست من نسج أحد، بل هي واقع بأطرها ورموزها وهيكلتها وبياناتها، ومعسكرات تدريبها. بل إنها حاولت قتل القذافي وسقطت القنبلة على قرب منه، ثم انتقلت الجماعة إلى أفغانستان، وعسكرت هناك وأصدرت مجلة الفجر، وتابعت نشاطها، ومع كل هذا انظري إلى تحركات سيف الإسلام، وتحريكه للحوار، وإفراجه عن العشرات من أفراد الجماعة، وإشراكه للعلماء والمفكرين، وعلى رأسهم الشيخ محمد علي الصلاّبي، صاحب النفائس التاريخية. أما مصر فالأمر فيها أكبر من ذلك: تنظيمان مسلحان بقاعدة شعبية عريضة، وامتدادات واسعة، وأطر لامعة، وعمليات وتفجيرات واغتيالات، بلغت حد اغتيال الرئيس، ومع ذلك تفاعلت الدولة مع مبادرة الجماعة الإسلامية، ثم مبادرة جماعة الجهاد، مع أن الدكتور فضل أو من يعرف بعبد القادر بن عبد العزيز، لم يتراجع عن كثير من الغلو الظاهر في تأليفاته، لكن مجرد دعوته الفصائل الجهادية للانضباط بأحكام الشريعة، جعل الدولة تتفاعل وتطلق سراح مئات المعتقلين على ذمة الملف. في اليمن مشايخ وعلماء يطرقون أبواب السجون، فإذا تعهد المعتقل بعدم القيام بأي عملية في بلده أُطلق سراحه فورا أو خفف الحكم عنه إلى أقصى درجة، إلى درجة أن أمريكا احتجت على هذا الصنيع، بعد تخفيف الحكم على أحد المطلوبين أمريكيا.في السعودية، حيث كانت الدولة تتغنى دوما بأمنها واستقرارها ووحدتها، والأمر ليس بالهين، فخروج جماعات مسلحة متشبعة بالفكر الجهادي في بلد يرى نفسه حامي العقيدة، وجندي التوحيد، ومركز الأمة روحيا، وملاذه دينيا، وهو خروج طوائف مسلحة تنازع النظام شرعيته الدينية أمر غير يسير، وكان متوقعا مواجهته بكل قساوة وصرامة، لكن الدولة بعلمائها ومفكريها بادروا إلى عقد مجالس النصيحة ومجالس السكينة، ليفرج عن المئات من المعتقلين في ملف سالت في دماء و حصلت مواجهات وصراعات. الذي أستغرب له كيف يحدث هذا في بلاد عرفت مواجهات مسلحة بين النظام وهذه الجماعات، وفي المغرب، أحداث 16 ماي الشنيعة، ليست مواجهة ولا تنظيما مسلحا، بل مجموعة من الشباب تأثروا بالأنترنيت فقاموا بما قاموا به، وإلى الآن لم يعلن غيرهم مسؤوليتهم، ولا اعترف أحد بوجود تنظيم، ومع ذلك لم تتحرك الدولة لفك هذا الملف! مبادرة الحوار مع العلماء هل ما تزال ؟ الحل إذن في تحريك المبادرات، وإشراك علماء الأمة، الذين نجلهم ونحترمهم، وعبرنا دائما عن فرحنا بقدومهم علينا، واستماعهم لنا، ولازلنا نجدد الدعوة ونؤكدها، كما يتعين إشراك المنصفين والعقلاء من المثقفين والمفكرين، والذين أتوجه لهم باللوم والعتاب لعدم تحركهم بجدية للدفع نحو أفق مبشر لهذا الملف. إن مبادرة الجماعات الجهادية بمصر لم يكن لها أن تنجح ذلك النجاح و تثمر تلك الثمرة لولا توفيق الله تعالى، ثم الجهد الكبير الذي قام به المثقفون والمفكرون ومنهم علمانيون ويساريون، ومنهم من لم يتردد حتى في زيارة المعتقلين والجلوس إليهم والاستماع إليهم، حتى تتوفر لهم القناعة الكافية للدفاع عنهم وعن إطلاق سراحهم. فعلى الدولة إذن أن تتحرك لوجود كل الأجواء المساعدة وللإشارات الصادرة من كثير من المعتقلين، والتي تشجع على مثل هذا التحرك، وعلى الدولة إذا فكرت جديا في هذا الأمر، ألا تربطه باكتشاف هذه الخلية هناك أو هذه المجموعة هنالك، فما ذنب من لا يؤمن بهذا الفكر أصلا ليتحمل مسؤولية شباب طائش لا يراعي تصرفاته شرعا ولا مصلحة؟ على الدولة أيضا أن تفسح المجال لأهل الاعتدال، ليظهروا منهجهم، ويقنعوا به غيرهم، بالرغم من أن الاعتدال قوي بنفسه، مستعل بأدلته وشواهده، لكن مع قلة العلم وضعف التحصيل، لابد من البيان والتوضيح، ودحض الشبه. صراحة كنت أتمنى من ألف عالم الذين اجتمعوا لمحاربة التطرف والغلو، بدل أن يصدروا بيانا يصمون فيه نزلاء السجون بالخارجية، دون تفريق بين الغلاة وغيرهم، كان أولى بهم أن يصدروا ردودا علمية مقنعة، وليست ورقات أكثر ما فيها كلام عام، بل ردود مقنعة تضع الدواء على حقيقة الجرح، وتعرض لأدلة المخالف، وتجيب عنها إجابات مقنعة، ثم توزع هذه البحوث بين المعتقلين، وتفتح سبل النقاش والحوار بكل أدب واحترام حول مضامين هذه الوثائق، ولو سار الأمر في هذا الاتجاه لرأينا نتائج مهمة داخل السجون كما كان الحال في السعودية.