في الحلقة السابقة أشرت إلى أن كثيرا من المؤشرات تشير إلى أن السيناريو الذي حذر منه تقرير الخمسينية هي الأكثر احتمالا والأقرب إلى التحقق ما لم يقم المغرب بوقفة حقيقية للقطع مع أساليب التدبير للشأن العام التي أكل عليها الدهر وشرب. من المحزن جدا مثلا أن نرجع بعد أزيد من خمسين عاما إلى صيغة رديئة من حزب الدولة، أي إلى الاستمرار في منطق التحكم في الحقل السياسي بدل السير قدما في مسار الديمقراطية بإحداث الإصلاحات الدستورية والسياسية اللازمة من أجل تعزيز مبدأ المسؤولية السياسية والإصلاحات القانونية والمؤسساتية التي تقوي دور الأحزاب السياسية وتقطع الطريق مع وباء الفساد والإفساد السياسي؛ بمختلف أشكاله وألوانه؛ بدءا بشراء الذمم وإفساد الناخبين والمنتخبين، وانتهاء بعبث الترحال السياسي. الأصالة والمعاصرة اليوم ليس سوى صورة رديئة وبائسة للفديك القديم، وهو خليط غريب عجيب من اليمين واليسار والمصلحيين والطامحين الطامعين، ومن الصالحين والطالحين، مع فارق جوهري هو أن المعركة في الستينيات كانت معركة من أجل السلطة وتنازع حول الحكم والمشروعية، وهو الأمر الذي لم يعد قائما اليوم بحال. نحن اليوم في وضع تراجعي ليس فقط بالنسبة للآمال التي علقت على ما سمي ذات يوم بالانتقال الديمقراطي، بل على وضعنا في الستينات يوم تم تأسيس الفديك إلى درجة يمكن القول معها إننا نظلم الفديك بمقارنته بالوافد الجديد، إذ الأمر اليوم لم يعد يتعلق بمؤامرات أو نزعات انقلابية عند فريق من المعارضة تستدعي تدبيرا تحكميا من هذا النمط القديم، وإنما بنمط متخلف من التحكم، ليس على قاعدة منافسة سياسية شريفة ومتوازنة، بل بتوجهات نكوصية إقصائية، تحت يافطة فساد وعجز الأحزاب السياسية التقليدية، في حين أن التجربة الجديدة ـ القديمة تعيد إنتاج أسوئ ما في تجربة الفديك. في تجربة الستينات كان مهندسو الإفساد للنخبة والحياة السياسية يتكئون على وجود توجهات سياسية معادية للنظام الملكي، ومحاولات انقلابية تستهدف الشرعية القائمة، دون أن ننسى أن أوفقير كان يستغل وضعية التنازع تلك ويعمقها ويسعى إلى نسف أي محاولة للتصالح بين النظام والمعارضة. اليوم ومع تغير الوضعية ووصول المغرب إلى تحول تاريخي مهم ـ كان من الممكن أن يشكل طفرة حقيقية نحو الديمقراطية، وليس فقط إلى ما سمي بالانتقال الديمقراطي الذي لم يتحقق بشهادة المشاركين فيه ـ وهو الإجماع أو شبه الإجماع على الملكية لأن الناذر لا حكم له، أقول اليوم وقد انتفت تلك الذرائع الأفقيرية التي أدت إلى توسيع الهوة بين الملكية والمعارضة، لا يبدو أننا نتقدم إلى الأمام. اليوم رغم الخطاب الرسمي، خطاب الشفافية وحياد الإدارة، وبعض الإصلاحات الجزئية في النظام الانتخابي، وبعض الإجراءات الزجرية في حق بعض رجال السلطة، وربما في الأيام القادمة بعض المتابعات القضائية لبعض سماسرة الانتخابات كما حدث في انتخابات تجديد الثلث سنة ,2006 وهي إجراءات غدت جزءا لا يتجرأ من عملية إخراج وتسويق شفافية الانتخابات لا يبدو أن هناك تغييرا في الجوهر، وأن عمليات صنع الخريطة الانتخابية والتحكم فيها مايزال هو الثابت وراء الإصلاحات الظاهرية. اليوم لم نتخلص تماما في الجوهر من ذلك التدبير السياسي الذي تمت هندسة مفاصله الأساسية في عهد البصري، والذي قوامه التحكم في الخريطة الانتخابية، وأنتج صناعة متكاملة في تزوير الانتخابات وثقافة فساد وإفساد انتخابي، وجيشا من المقدمين والشيوخ ورجال السلطة وموظفي الشؤون العامة الغارقين حتى النخاع في هذه الثقافة، والمتمرسين في سلوكاتها، والمتخصصين في آليات التحكم في الانتخابات من الألف إلى الياء. فعلى الرغم من تشبيب وزارة الداخلية وتحديث طرق اشتغالها لكنها لم تتخلص من الثقافة المشار إليها؛ وإن كانت قد أجادت طريقة جديدة من التدبير الناعم في صناعة الخريطة. لا يوجد في أي بلد سوى المغرب حزب يمكن أن يكتسح الانتخابات في العالم القروي وهو لم يتعد في نشأته سوى بضعة أشهر. كيف يمكن أن نثق في حدوث تغير إيجابي ولا نؤكد أننا نسير في اتجاه السناريو التراجعي، وهذا الحزب استخدم الرأسمال الرمزي لصداقة صاحبه من الملك؟ وبعيدا عن قضية الصداقة كيف يمكن الحديث عن المنافسة الشريفة مع حزب يحمل معه صاحبه كل معطيات الخريطة السوسيو سياسية؛ بحكم أنه كان من مهندسي العمليات الانتخابية السابقة؟ كيف يمكن أن نصدق أنه لم يبق لهذا الرجل النافذ صداقات وولاءات داخل مختلف مستويات السلطة، خاصة وأن الكثير يؤكد أن له يدا بيضاء في استقطاب مئات الكفاءات للعمل في مؤسسات الدولة المختلفة؟ كيف لا نضع خيطا رفيعا بين حصده للمقاعد الانتخابية الثلاثة في دائرة صخور الرحامنة في سابقة فريدة من نوعها وبين انهيار فرق وأحزاب بكاملها لفائدة الوافد الجديد ومنتخبوها ومناضلوها يتهافتون على الوافد الجديد؟ أي علوم سياسية يمكن أن تستوعب هذا التحول وهذا الانقلاب السياسي في مشهد سياسي سمته الركود والتحرك ببطء؟ كيف نصدق أن مرجع ذلك إلى العبقرية السياسية التي ليس لها مثيل في الساحة السياسية، وإلى الأطروحة السياسية والخطاب السياسي الجديد الذي استطاع أن يستهوي العازفين عن السياسة وعن الأحزاب، وكأنه هو: المنقذ من الضلال وصاحب الهمة كاشف الغمة هادي الأمة إلى صراط مستقيم! إنه شيء بلغ من الجمال مبلغا كبيرا يستحيل معها أن يكون صحيحا كما يقول الفرنسيون. في عدد الغد: (مؤشرات التحكم في الخريطة السياسية)