يناقش الدكتور نبيل عبد الفتاح المتخصص في الحركات الإسلامية وقضية المراجعات العناصر التي قامت عليها تجربة الحوار في السجون المصرية، والتي انتهت إلى إطلاق مبادرة وقف العنف من الجماعة الإسلامية، ثم تلتها بعد ذلك مراجعات الجهاد الإسلامي، ويلخصها في إرث الدولة وحرصها على استمرار قوتها، وتنويع وسائل تدخلها لمعاجلة الظاهرة الإرهابية، باعتماد آلية الحوار عند التحقق من فشل المراهنة على المقاربة الأمنية، وتوفير الأجواء المناسبة لنجاح عملية الحوار. التجربة المصرية تبقى رائدة في محاورة التيارات الجهادية ودفعها إلى إعلام مبادرة لوقف العنف، بصفتكم تابعتم كباحث ومتخصص في الجماعات الإسلامية هذه التجربة، ما هي أهم العناصر التي اعتمدت عليها؟ يمكن أن نقف في التجربة المصرية على عدة عناصر، هناك أولا ما يمكن أن نطلق عليه ميراثا تاريخيا للدولة الأمة، وتخلقت عبر مشروع ضارب في التاريخ، وله شائج عميقة بين المصريين على أساس فكرة الأمة الحديثة التي تعتمد على تداخلات متعددة من الثقافة ومن التركيبات الطبقية التي كانت تتبلور من الاستعارات الحديثة للقوانين وللقوانين المرتبطة بمشاريع التقدم على النسق الغربي، ولكن المثير في هذه التجربة هو دمج هذه الاستعارات الحديثة ضمن البنية الثقافية الوطنية المصرية بكل روافدها الكبرى، وهي الإسلامي والمسيحي الأرثوذوكسي، وأيضا المواريث القديمة للدولة ولأنماط التدين الشعبي التي كانت شائعة. فخبرة وقوة جهاز الدولة أدت إلى إنتاج ما يمكن أن نطلق عليه بثقافة الدولة، وهي الثقافة التي لم تنبذ الدين ولم تحاربه، ولكن كان القائمون عليها حتى في المرحلة شبه الليبرالية يحرصون على عدم الخلط بين السياسية وأكاذيبها وحيلها وبين القيم الدينية في عموميتها. وفي الجملة كان المنطق المهيمن على النخبة الحاكمة في مصر هو احتكار المجال الديني وعدم السماح لأي قوة شعبية أن تستخدم الدين استخداما سياسيا لتبرير مشروعها السياسي. ومن هنا ظل هذا الإرث مستمرا إلى هذه اللحظة؛ على الرغم من تدهور مستوى كادر الدولة بحكم تدهور مستوى التعليم. إذن، العنصر الأول يتعلق بخبرة الدولة وقوتها، أما العنصر الثاني، فهو أن هناك ثقة في الدولة وأنها ليست موضوع المنازعة، فلم يكن ينازع في مشروعية الدولة إلا الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية والجهاد الإسلامي، وقد راجع الإخوان موقفهم من الدولة وصاروا يتحدثون عن أسلمتها وفقا لاجتهادهم الذي لا يخرج بدوره عن الاجتهاد البشري الوضعي. وفي العموم، هناك قبول بفكرة الدولة الأمة من لدن جميع تيارات المجتمع وأطيافه السياسية. ومن الأمور التي قد تبدو غريبة أن يجري وزير الداخلية الذي كان محافظا كان رجل أمن حوارا مع الجماعات الإسلامية، لأنه يملك الثقة في فكرة أنه مؤمن وأنه ليس منابذا للدين، وأنه بصفته ممثلا للدولة في الداخلية فهو يمثل قوة الدولة الواثقة من نفسها والتي تريد بكل الوسائل أن تضمن استمرار هذه القوة؛ سواء بإصلاح الدولة أو إدخال بعض التعديلات، لكن في الجوهر، الأساس هو الحفاظ على قوة الدولة واستمرار إرثها التاريخي. وعلى الرغم من انفلات الأمور من يد السادات بسبب اضطراره إلى تكثيف التوظيف الديني لشرعيته السياسية وانفتاحه على الولاياتالمتحدةالأمريكية، والذي تسبب في إيجاد بيئة ملائمة لتوسع القاعدة الدعوية والتنظيمية والسياسية للجماعات الإسلامية، إلا أن جهاز الدولة سرعان ما استنفر بعد اغتيال السادات لإعادة الأمور إلى نصابها، وتقويض البنية التنظيمية لهذه الجماعات. يعني في هذه المرحلة اعتمدت المقاربة الأمنية؟ كان من الضروري اعتماد هذه المقاربة لضرب القوة التنظيمية للجماعات الإسلامية، وبالمناسبة؛ فهذه المقاربة التي تعتمد كلا من الاختراق والملاحقة الأمنية كان مستمرا منذ البدايات الأولى مع كل التيارات التي تؤمن بالعنف السياسي وليس بالضرورة مع الجماعات الإسلامية. وما سياق بدء الدولة باعتماد آلية الحوار؟ بدأ الاعتماد على آلية الحوار بعد اغتيال السادات وبعد الحكم على قضية الجهاد ذائعة الصيت، وكانت تتوفر لها مقومات المحاكمة العادلة باعتراف الإسلاميين أنفسهم. إذ في هذا السياق اقتنع القادة الأمنيون أن الظاهرة هي أعقد من أن تعالج بالمقاربة الأمنية، وأنه لا بد أن تكون مصاحبة بمقاربة إعلامية ومقاربة دينية، ومن هنا بدأ الحوار مع حزب التحرير الإسلامي والجماعة الإسلامية والجهاد، وشارك في هذا الحوار في مرحلته الأولى كبار رجال الدين وبعض المثقفين الإسلاميين من خارج المؤسسة الرسمية، ثم سرعان ما اكتشف أن هذا الحوار تعتريه بعض النقائص، واستخدم المثقفون مرة أخرى في الحوار في مرحلته الثانية على مستوى الندوات العامة في معارض الكتب السنوية، وعلى صفحات الجرائد، مع إعطاء الفرصة لهذه الجماعات للرد على ما يوجه إليها من انتقادات. ثم ما لبثت أن اكتشفت الدولة أن الحوار ينبغي أن يكون بينيا مباشرا بين قادة الجماعات الإسلامية والمعتقلين في السجون، فكانت أول ما قامت به هو تحسين المعاملة العقابية في السجون، فسمحت لهم باستكمال التعليم ووفرت لهم المراجع العلمية والفقهية، وبدأت السلطات السجنية توفر لهم بالحد الأدنى من الكرامة، وهذه كانت في منتهى الأهمية، لأن السلطة السياسية وفرت بذلك البيئة لنجاح عملية الحوار، ولعل ما ساهم أكثر في نجاح هذه التجربة هو المعالجة الإنسانية لأوضاع المعتقلين وأسرهم خارج السجون، فما قام به وزير الداخلية عبد الحليم موسى؛ سواء مع المعتقلين الذين غادروا السجون أو مع أسر المعتقلين فيما يخص تسوية مشكلة السكن اعتبر بمثابة حسن النوايا التي قدمتها الدولة لإثبات مصداقية انخراطها في الحوار الجدي مع الجماعات الإسلامية. أنا أعتقد أن هذه هي المكونات التي اعتمدت داخل التجربة المصرية، والتي دفعت الجماعات الإسلامية إلى تسريع عملية المراجعات وإطلاق مبادرة وقف العنف. إلى أي حد يمكن الحكم على التجربة المصرية بالنجاح؟ وهل يمكن اعتبارها نموذجا للمقاربة التصالحية في العالم العربي؟ التجربة المصرية نجحت إلى حد ما، وكان سيكون نجاحها أكبر لو توفرت بيئة ديمقراطية ملائمة، وحوارات واسعة تشارك فيها مختلف مكونات الطيف السياسي المصري، وهو نفس الأمر الذي تتطلبه الحالة المغربية على الرغم من التمايزات الواضحة بين الحالة السلفية المغربية والتنظيمات الجهادية في مصر، فالعنصر المشترك في التجربتين أن مصر والمغرب في العالم العربي برمته دولتان أمتان حديثتان تمتلكان إرثا تاريخيا كبيرا، فالمطلوب أن توفر البيئة الملائمة لانطلاق حوار إسلامي إسلامي، والتصدي الحاسم لكل من يستخدم العنف وكل من يخرج على قانون الدولة بمحاكمته محاكمة عادلة، واحترام حقوق الإنسان، فكلما توفرت البيئة المناسبة للحوار، وكلما مضت الدولة في مسار الدمقرطة وحقوق الإنسان واحترام القانون؛ كلما شجعت الناس بجميع أطيافهم على الثقة فيها وفي مؤسساتها ودفعتهم إلى ترك العنف وتوجيههم للانخراط الفعلي في صنع مستقبل البلد. ماذا بعد المراجعات؟ أعتقد أن الذي ننتظره هو مزيد من دمقرطة النظم العربي، ومزيد من الإصلاحات السياسية والاجتماعية، ومزيدا من الإصلاحات في مجال التعليم، لأن التعليم الرديء لا يمكن أن ينتج إلا مزيدا من التدهور والترهل في المشهد الثقافي والسياسي والإعلامي، والذي يؤدي إلى إحداث عالم من الفوضى عنوانه التشكيك والصراع والتنازع على هوية بلد تحددت هويته.