احتفلت القناة الثانية أخيرا بالذكرى العشرين لانطلاقها، بطريقته الخاصة.. وكانت مناسبة تقتضي فتح نقاش وطني عمومي مع مؤسسة عمومية، ماذا حققت وماذا أنجزت وكم ربح الشعب منها مقابل الدعم الذي تستفيد منه؟ .. فقضية التعددية والقيم واللغة العربية التي حاولنا في هذا الملف بقدر المستطاع مناقشتها، تبقى خطوط عريضة تؤطر المادة الإعلامية لمنبر إعلامي يمثل مختلف شرائح المجتمع وألوانه السياسية والثقافية، ولئن كانت القناة قد حققت في انطلاقتها الأولى قفزة مهمة في ملامسة هموم المواطن المغربي واقتحمت بعضا من السياسات التي ترسم حاضره ومستقبله، فإنها لم تصمد كثيرا لتصاب بالنكوص ، وقد عبر عن ذلك مديرها الجديد سليم الشيخ الذي أعلن في تصريح له بعد توليه المسؤولية حين انتقد واقع القناة. في هذا الملف، نحاول جهد المستطاع ملامسة بعضا من مجالات التقويم، معتمدين في ذلك علي رأي مختصين وعلى وثائق وأرقام، وكذا رأي المواطن المغربي فيما تقدمه من منتوج. تناقض منظومات القيم وصراع أجنحة داخل دوزيم لا يكاد المشاهد والمتتبع لبرامج القناة الثانية يستقر على حكم بخصوص نوع القيم التي تدعو إليها القناة الثانية من خلال برامجها، وإذا كانت المادة الثالثة من القانون المتعلق بالاتصال السمعي البصري، يشترط على متعهدي هذا القطاع ممارسة حرية الاتصال في احترام للقيم الدينية ومحافظة على النظام العام والأخلاق الحميدة، فإن دفتر التحملات التي وقعت عليه القناة الثانية يحمل العديد من العبارات العامة التي تفتح المجال لإمكانات تعبيرية إعلامية تتناقض على المستوى القيمي. فنص دفتر التحملات يتحدث عن مرجعية عامة ومتنوعة تستند إلى القيم الحضارية المغربية الإسلامية، العربية والأمازيغية، وإلى القيم الكونية الإنسانية، وكما ينص على أن القناة الثانية تدعم قيم الديمقراطية والانفتاح والتسامح والحداثة، وتعمل على تشجيع الحوار والتماسك الوطني، في إطار احترام الخصوصيات الفردية والفكرية والعقائدية. وعلى الرغم من هذا العموم والغموض المسجل على نوع دلالات هذه العبارات ونوع القراءة التي يمكن تؤول بها، إلا أن نص المادة 3 يبقى هو المرجع ليس فقط في تفسير هذه المدلولات الواردة في نص دفتر التحملات، وكلن أيضا في مراقبة القناة وقياس مدى وفائها بمنظومة القيم الإسلامية. وبالنظر إلى تجربة عشرين سنة، لا يكاد المتتبع والراصد يلمس أي استقرار في منظومة القيم التي تدعو إليها القناة الثانية، فبعض برامج القناة تمضي في اتجاه دعم منظومة القيم الإسلامية في بعدها الديني (الإسلام سلوك ومعاملات، برنامج تجويد القرآن الكريم) وبعضها يدعم هذه المنظومة في بعدها الفكري (الإسلام وقضايا العصر) فيما بعضها الآخر ينصرف إلى البعد الاجتماعي في هذه المنظومة (مختفون، الخيط الأبيض مؤخرا) وفي المقابل تحمل بعض الربامج هوية مرجعية وقيمية أخرى لا علاقة لها بهذه المنظومة (استوديو دوزيم مثلا) الذي أثار حملة من الانتقادات كان على رأسها بلاغ نقابة الموسيقيين في نهاية شهر يوليوز ,2008 الذي اتهم هذا البرنامج بـمسخ القيم والمثل العليا، وطمس الثقافة الوطنية والهوية المغربية، واعتبر البلاغ البرنامج محطة للغزو الثقافي الفني الأجنبي بكل ما يحمله من ميوعة، وصخب وترد مقصود لإبعاد الأغنية المغربية والتراث المغربي. ويزيد في كشف هذا التنقض القيمي في الخط التحريري للقناة أنها استضافت يوم الإثنين 27 نونبر 2006 في البرنامج الثقافي بين السطورخ الروائي المغربي المقيم بفرنسا عبد الله الطايع الشاذ جنسيا، والذي لم يتورع عن الحديث عن تجاربه الذاتية الشاذة في أعماله الروائية، وقدم البرنامج المذكور الذي يرصد آخر الإصدارات الأدبية والفكرية محمد برادة صاحب كتاب خبي مي زينخ الذي يتحدث في جزء منه عن لقاءاته الحميمية مع زوجته، وعبد الله الطايع صاحب روايةخ الطربوش الأحمرخ التي يحكي فيها بعض مغامراته الجنسية في مرحلة الطفولة والمراهقة، وقد قدم البرنامج هذين المؤلفين باعتبارهما كاتبين جريئين ومتميزين، يفجران المسكوت عنه ويكسران الطابوه المحرم، ويثوران على تقاليد المجتمع البائدة. خط تحريري يعكس وجود تناقض كبير يظهر على المستوى القيمي، ويخترق برامج القناة عموديا وأفقيا، وتظهر بين الفينة والأخرى معالم صراع قوي بين جناحين داخل القناة، جناح يتقيد بمضمون المادة 3 من القانون النتعلق بالاتصال السمعي البصري، وجناح يريد باسم الحداثة وقيم الحرية والديمقراطية والانفتاح والتسامح أن يتمرد على القيم الإسلامية الناظمة، ويحاصر البرامج التي تمثلها، وتؤشر المدد والحصص التي تعطى للبرامج على دينامية هذا الصراع الذي يخوضه الجناح المنابذ للمنظومة القيمية الإسلامية ضدا على الربامج ليس فقط ذات الحمولة القيمية الإسلامية، ولكن ضد كل البرامج العربية والحوارية التي يمكن أن تعكس تعدديتها وجهة نظر تيارات تعبر عن هذه الحمولة. ويؤشر حجم البرامج الدينية في القناة الثانية على مواقع هذا الصراع، فقد احتلت البرامج الدينية آخر ترتيب ضمن البرامج التي قدمتها القناة الثانية، برسم سنة 2008 إلى حدود نهاية أكتوبر، من حيث عدد الساعات حسب ما كشف عن ذلك مشروع ميزانية قطاع الاتصال برسم السنة المالية ,2009 إذ لم تتجاوز عدد ساعات البرامج الدينية 32 ساعة، فيما احتلت البرامج الموجهة للأطفال والمراهقين والشباب، والتي يغلب على بعضها طابع الترفيه الرتبة الأولى، إذ بث منها 550 ساعة خلال 1696 حصة، وبلغت برامج الترفيه والموسيقى 212 حصة مقابل 97 ساعة. وقد ظهرت حدة هذا الصراع في الآونة الأخيرة، لما تم تقليص مدة برنامج تجويد القرآن الكريم الذي يبث في شهر رمضان، كما تم تجميد برنامج الإسلام وقضايا العصر لفترة من الزمن (شهر رمضان الماضي مع العلم أنهى جرت العادة لدى القناة أن تبرمج حلقتين أو ثلاثة من هذا البرنامج في شهر رمضان) ضدا على التزامات البرمجة، كما تؤشر إزاحة برنامج سلوك ومعاملات عن وقته (وقت الذروة) إلى الثانية زوالا من يوم الجمعة، وهو نفس الأسلوب التي انتهج ضد بعض البرامج السياسية (تيارات) التي كانت تتمتع بنسبة مشاهدة مرتفعة، وفي المقابل تم برمجة برامج الموسيقى والترفيه في أوقات الذروة. تناقض على مستوى الرسالة الإعلامية بقدر ما يكشف عن وجود صراع بين جناحين، بقدر ما يفسر اضطرابا وارتباكا في المقاربة الإعلامية للقناة الثانية، وهو ما يطرح على الإدارة الجديدة تحديات حقيقية يمكن تلخيصها في ثلاث أسئلة كبرى: - ما هي منظومة القيم التي تريد القناة الثانية أن توجهها إلى الجمهور؟ - من هي الفئة المستهدفة التي تخاطبها القناة الثانثة؟ - ما الحجم الذي تحتله المقاربة الدينية يف برامج القناة الثانية؟ أسئلة كبرى، تتطلب من الإدةر الجديدة أن تعكف على إيجاد مقاربة لها تقطع مع عناصر الخط التحريري السابق الذي أظهر تناقضات خطيرة على مستوى الرسالة القيمية، وتحاول أن تتجاوب مع حاجيات الشرائح العريضة من المجتمع التي باتت تهاجر إلى قنوات أخرى بحجة إيغال القناة الثانية في التعبير منظومة قيم أقلية لا علاقة لها بهذه الشرائح العريضة.