منذ حوالي ثلاث سنوات انطلقت موجة بحثية أوروبية تتساءل عن مرتكزات ونتائج السياسية الأوروبية تجاه الحركات الإسلامية المعتدلة، وتقدم قراءة نقدية مضادة لسياسة سلبية لجأت في أحسن الحالات إلى اعتماد التجاهل كخيار في العلاقة معها، مع استثناء كل من الحالتين الفلسطينية واللبنانية. وبغض النظر عن مدى ودرجة أثر هذه الحركة البحثية في توجيه مسار السياسة الأوروبية العامة، إلا أن الفعاليات البحثية المنخرطة فيها استطاعت أن تتقدم وتبرز كحاملة لطرح بديل ومختلف في سياسة العلاقة مع الحركات الإسلامية المعتدلة، مما يقتضي الانتباه لأبعاده والتفاعل معه، وهو ما تتيحه الورقة البحثية الأخيرة للألمانية كريستينا كوش والصادرة عن معهد العلاقات الدولية والحوار الخارجي المعروف اختصارا بـ فريد بمدريد، وهي الورقة التي سبق تقديمها في مؤتمر مركز دراسة السياسة الأوروبية باللجنة الأوروبية ببروكسل في أواخر نوفمبر الماضي. أولى هذه الأبعاد هو التقدم المحقق على مستوى تجاوز الصعوبة المرتبطة بالحديث عن سياسة أوروبية في هذا المجال بالمعنى الحرفي للكلمة، حيث تصر العديد من الدول على الاحتفاظ بحقها السيادي في إدارة هذا الملف، مع التنسيق فيما بينها في الموضوع. ولهذا، فرغم صدور وثيقة عن خلية بحثية رسمية سبق تأسيسها عام 2005 على مستوى اللجنة الأوروبية، وحملت مجموعة مبادئ عامة في التعامل مع الإسلاميين، فإن رد الفعل كان سلبيا إزاء الفكرة من أصلها. لكن في المقابل يتيح تحليل مواقف الدول الأوروبية استنتاج عناصر مشتركة، فضلا عن حالة التوافق حول الامتناع عن انتهاج مواقف إيجابية باسم الاتحاد الأوروبي ككل، وعملية فحص هذه العناصر المشتركة وربطها بما يصطلح عليه بالسياسة الأوروبية للجوار، وبروز محور الحكامة والديمقراطية كأحد المحاور المفصلية لهذه السياسة، مما أدى إلى اصطدام الفاعل الأوروبي في ميدان حقوق الإنسان وقضايا الترويج للديمقراطية بضرورة اتخاذ مواقف من موضوعات المشاركة السياسية للحركات الإسلامية وعلاقة هذه المشاركة بالإصلاح السياسي وأثرها على الاستقرار. ولهذا، وتحت ضغط الاحتياجات والتحديات الميدانية، بدأ الدفع باتجاه فتح قنوات حوار تشكل المؤسسات البحثية فضاء وسيطا لها، وذلك لغاية تجاوز العقبات السياسية التي تحول دون ذلك. أما البعد الثاني فيتجلى في توسع الحركة البحثية لتشمل مؤسسات بحثية منتشرة في المجال الأوروبي، مع ضعف فرنسي ملحوظ. وهنا يمكن الإحالة على خمسة مراكز أبحاث، ففضلا عن المعهد الإسباني المشار إليه آنفا، هناك أيضا المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ببرلين الذي نظم في سبتمبر 2007 مؤتمرا أوروبيا-أميركيا في الموضوع، ومركز دراسة السياسة الأوروبية الذي كان آخر مؤتمراته في نوفمبر الماضي والذي يستعد لإصدار كتاب فحص للسياسة الأوروبية حول الإسلاميين، ثم هناك معهد الشؤون الدولية بروما والذي سبق له الاشتراك مع معهد كارنيغي من واشنطن في قضايا الديمقراطية والحركات الإسلامية، ثم أخيرا وبدرجة أقل معهد لندن للشرق الأوسط التابع لكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بلندن الذي تقدم مديره روبرت سبرينغ بورقة بحثية في مؤتمر بروكسل المشار إليه آنفا، حيث تساءل فيها عن المسؤولية الأوروبية عن ظهور موجة تطرف وراديكالية جديدة بسبب سياستها الحالية تجاه موضوع الديمقراطية والحركات الإسلامية المعتدلة، هذا قبل أن يعلن عن إيقاف المركز الدولي لدراسات الإسلام المعاصر بليدن والذي نظم لقاء علميا دوليا في سبتمبر الماضي كان من ضمن أهدافه تحليل أبعاد الاعتدال في الحركات الإسلامية والتحولات الحاصلة فيها وآثار ذلك على سياسات الإدماج لها. وكلا البعدين السابقين أخذا في تسريع مسلسل بروز بعد ثالث، وهو بعد الانتقال من سياسة التهميش والإقصاء إلى سياسة الإدماج والاستيعاب، وهو العنوان الذي اختارته كريستينا كوش للتمهيد به لورقتها، قبل أن تعتمد منهجية تحليل حساب الكلفة والعائد في دراسة كلفة اعتماد سياسة الإدماج وحجم العائد المتحقق من ذلك. وقد انطلقت كريستينا من محدودية السياسة الأوروبية القائمة على تفضيل خيار الاستقرار والتعاون مع الأنظمة السلطوية القائمة في المنطقة، وذلك لحماية مصالح الاتحاد الأوروبي فيها، والوعي المتنامي بقصور هذه السياسة في تحقيق تلك المصالح، وفي المقابل فإن تبني الاتحاد الأوروبي لسياسة الحيلولة دون تحول الحركات والأحزاب الإسلامية المعتدلة نحو العنف كجزء من استراتيجيته لمكافحة الإرهاب، فتح الباب لهذا المسلسل الجديد، خاصة مع تصاعد النقاش حول التعددية القائمة في الجسم الحركي الإسلامي والتباينات القائمة بين مكوناته حول قضايا الديمقراطية وغيرها، ولهذا كانت ورقة كريستينا صريحة في القول بأن الوقت الآن هو للإدماج والاستيعاب مع إحالتها إلى أن الكثيرين يدافعون عن أن ذلك يجب أن يتم بنسبية وبحسب درجة استعداد كل حركة للتفاعل إيجابا مع الغرب عموما وأوروبا خصوصا. إلا أن المثير في الورقة هو ربطها بين ما سبق وبين الإشارة إلى وجود حالة من الإحباط نتيجة فشل المعتدلين في التأثير على الواقع السياسي، فضلا عن توصيفها الدقيق والمركز لدور الموقف المعادي للاتحاد الأوروبي لحماس في تقييد الموقف الأوروبي من الحركات الإسلامية المعتدلة. ما أثر ذلك على الحالة المغربية؟ لا نريد استباق حالة المخاض الأوروبي تجاه الموقف من الإسلاميين، لكن الحالة المغربية تبدو في وضع خاص، لسببين: الأول يهم نتائج ما سبق على عملية تنزيل مقتضيات الوضع المتقدم الذي أصبح المغرب يحتله بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وهي مقتضيات تبرز من خلال ثلاث آليات حكومية وبرلمانية ومدنية، والثاني النظرة المقدمة والإيجابية لتجربة حزب العدالة والتنمية والتي يقدمها بعض الباحثين هناك على اعتبارها نموذجا يتيح اختبار هذا التطور، ولهذا يعتبر البعض أن الحالة المغربية ستكون مؤشر اختبار لفعالية سياسة الإدماج من عدمها.