هل تؤشر تفجيرات الجزائر المتتالية منذ بداية هذا الشهر لدورة عنف جديدة تختلف من حيث مداها وآثارها وأدواتها عن مسار العنف الذي شهدته سنوات ما بعد قانون الوئام المدني وميثاق المصالحة.. أم أنها ستكون مجرد محطة عنف معزولة وعابرة، تكفي معها مواصلة السياسة الأمنية المتبعة؟ يصعب الحسم لمصلحة أي من السؤالين، وذلك لتعدد المؤشرات التي تخدم السؤالين معا، من ناحية، ولما يترتب عليهما من استحقاقات عملية متناقضة داخل وخارج الجزائر، من ناحية ثانية. لقد نقلت التفجيرات الجزائر إلى المرتبة الثالثة، بعد كل من العراق وأفغانستان، من حيث نشاط تنظيم القاعدة أوالتنظيمات المرتبطة به. وأدى تتاليها، وتمكنها من تحقيق أهدافها وما أبانت عنه من إمكانات عملياتية وميدانية جديدة؛ إلى كشف القدرات الجديدة لما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وخاصة ما ارتبط بالتمكن من التقنيات المعتمدة في التفجيرات ومجال تنفيذها، ومدى التحكم في انتقاء الأهداف. وهي مرحلة بدأت في يونيو الماضي وناهزت حصيلتها التسعين قتيلا، بما معدله ثلث حصيلة التفجيرات من القتلى منذ فبراير من السنة الماضية، والتي ذكر مصدر إعلامي جزائري أنها بلغت 225 قتيلا و233 جريحا، أي منذ بدء تفجيرات التنظيم باسمه الجديد بعد أن كان، ومنذ ,1998 يحمل اسم الجماعة السلفية للدعوة والقتال. ترتكز أطروحة القول بوجود تحول نوعي في مسار اشتغال تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على كون الوتيرة التي تم بها تنفيذ التفجيرات أبرزت قدرة التنظيم على التكيف مع السياسة الأمنية المناهضة له واستيعابه لثغراتها، ثم على وجود توسع في بنيته البشرية التي تغذت من الإطار السياسي والفكري العام لالتحاق التنظيم بالقاعدة على المستوى العالمي. وهو ما لوحظ في تنامي فعاليته الدعائية والإعلامية. وبموازاة ذلك؛ فإن مأزق تجربة قانون الوئام المدني وميثاق المصالحة لا يقدم بديلا مشجعا لأنصار وأعضاء التنظيم من أجل مراجعة منهجهم والتخلي عن خيار المواجهة المسلحة للنظام، حسب ما أفاد به عبد الحق العيايدة، الزعيم السابق للجماعة الإسلامية المسلحة، في حوار مع يومية +الخبر؛الجزائرية، مقدما وضعيته مؤشرا على ذلك. ولهذا، قدمت هذه التفجيرات دليلا على تجاوز التنظيم لمأزق القبول أو الرفض لخيار المصالحة، وتثبيت الخيار المضاد له، وهو ما يعني توجهه لاستثمار كافة طاقاته نحو الخارج، خاصة أن تمكن التنظيم من مد نشاطه في الصحراء يعطي لخطابه الدعائي مصداقية لمواجهة امتداد النشاط العسكري الأميركي في المنطقة. في المقابل، حرصت الدوائر الأمنية بشكل أساسي على الترويج لأطروحة اعتبار أن ما جرى ليس دورة عنف جديدة، بل مجرد استمرار مع نوع من التصعيد الظرفي، معتمدة في ذلك على ثلاثة عناصر: أولا، كون التنظيم فشل في الامتداد نحو مناطق مختلفة أوداخل العاصمة كما كان في أوج قوة هذه التنظيمات في التسعينيات، بل وانحساره في المجال الجزائري بعد أن طرح نفسه تنظيما جهويا وصعد من حملاته ضد عموم أنظمة المنطقة، وثانيا أن التفجيرات منحسرة في منطقة القبائل ضمن مثلث تيزي وزو وبومرداس والبويرة، وأن التنظيم يستثمر الضعف الأمني القائم في المنطقة بفعل التوترات القديمة بين السلطات وبين الأمازيغ، وثالثا تقدم الأطروحة مؤشر عجز التنظيم عن بناء عمق سياسي شعبي للتفجيرات، وعدم ارتباطها ببرنامج سياسي واضح يضمن لها الانتشار، وذلك على خلاف فترة الحرب الأهلية في منتصف التسعينيات، والتي كان فيها موضوع الانقلاب على نتائج انتخابات ديسمبر 1991 يقدم كمبرر. تؤدي المقارنة التحليلية بين مختلف الحيثيات الآنفة إلى رفض الاستهانة بالتطورات الأخيرة في إستراتيجية تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، إذ إن الارتهان لتجربة التسعينيات ومقارنة ما يجري بما حصل أثناءها شكل عائقا عن رؤية المتغيرات المستجدة، وسببا في عدم استيعاب عناصر تغذية وتقوية هذا التوجه المسلح، مما يدفع إلى القول بحاجة الجزائر إلى إعادة تفكير شاملة، تضع فيها تقييم حصيلة ميثاق المصالحة وتجربة الوئام المدني كمنطلق، كما تتجاوز الانغلاق في مقاربة أمنية جزئية، إذ كشفت التفجيرات تحدي بلورة مشروع سياسي يمكن من احتواء القدرات الدعائية والاستقطابية والميدانية، والتي كشف التنظيم في التفجيرات الأخيرة عن تقدم كبير فيها. ما يجري في الجزائر يعيدنا إلى قراءة وضعية مصر في التسعينيات، وخاصة المواجهات التي عرفتها الجماعة الإسلامية مع الأجهزة الأمنية. ورغم الاختلافات القائمة في التقنيات والسياق المحلي والارتباطات الخارجية؛ فإن هناك نوعا من التشابه ينبغي الانتباه إليه من أجل تجاوز المأزق الراهن في الجزائر، أي أن التفجيرات حملت رسالة واضحة تفيد بأن الحل في بلورة سياسة جديدة للمصالحة، ثم رسالة لدول الجوار؛مفادها أن الأداة الأمنية في مواجهة هذا النوع الجديد من التيارات تكون فعالة، لكن تبقى ظرفية وقاصرة عن احتواء وإنهاء خطرها، فبدون مقاربة شمولية فعلية فإن هذه التيارات أثبتت قدرة على التكيف مع الأدوات الأمنية في الحرب ضدها.