الظلام المدقع يمر بالمدينة وهي لوحدها تهرول على رصيف الأحزان، الثلوج تتهاوى فوق رأسها وهي بلا مظلة وداع، بلا قبة حنين، تهرول على مساحة يباب..الثريات تلمحها فتفر كأنها الظلام المفضوح ...تمضي وهي تصرخ بلا صوت..الخوف يجتاح الرصيف..نباح الكلاب العاهرة يسيطر على المسير...القطط الماكرة تضيء أعينها بشرارة..وأخيرا وصلت إلى حيها الصفيحي حيث مثواها الأول والأخير..فالصفيح وحده ما ورثت في مدينة تقدس التوريث...دفعت الباب القصديري بقوة، ثم دخلت، وهي تتنفس الصعداء ... الحمد لله ...عدت بسلام بعد يوم حافل بالمشاق في العمل، ..سارعت إلى تغيير ملابسها المبللة عن آخرها...لبست فستان نومها المزركش بلون التراجيدية المؤنثة..تأملت نفسها في المرآة، وقالت افخري أنك امرأة طاهرة في مدينة تتعطر بالدعارة..أعدت لنفسها كوب شاي منعنع..أخذت قلمها المعشوق ومعه أسرته الورقية.. توجهت نحو لحاف الحرمان البارد كدماء الرجولة السياسية...الرعد يزلزل أركان كوخها البريء من ثقافة القذارة الموسمة...النوافذ القصديرية تصدر ضجيجا مزعجا ومرعبا بقوة الريح المستكبرة..طنين المطر يتعالى وهي منعزلة في ركنها، تتناول شايها المنعنع، الذي كانت تعشق دفئه المفقود في غياب أحضان الأمس...تذرف معه دموع البقاء..بقاء الوحيدة..تردد معه بقايا النشيد...نشيد الشموخ المطعون..تمتص دماء العذاب المزروع بمدفئة كبدها، والدمع على شرفات جفونها يغرد للخلود...قطرات اللؤلؤ تتناثر من عينيها، ووحده شبح الحب المغتال في قلاع الخديعة يربت على كتفيها، ولم يعدها بالعودة..لتبقى الأحلام رهينة تجرع المضاضة المزدوجة ...مضاضة الجراح المصلوبة على قلب أنوثتها المعصوبة بقماش من استبداد ذكوري.. ومضاضة اللهفة لنفحة عبق نورسي مقلم الأظافر البلورية...على أركان نعشه أخذت قلمها لتدشن القصيد، كأنها أخذت مدفعا لتغتال صمتها المذعور...لا نهزم لا لن نهزم ...كل صنم في قواميس الاستبداد سيحطم..نساء جبال الشموخ لن نستسلم.. على قارعة التهميش...أفيون الحشيش..محاكم التفتيش..، فاض مداد القلم وهي تدون النزيف النزيف كفى تآمرا على التأريخ...هدأت قليلا ثم أخذت القلم بقوة ورشقته في الورق..ثم رفعته.. أعادت طعن الورق أكثر من مرة ..وهي تصرخ هكذا يغتال القصيد في مدينتي...هكذا تنحر الحرية على الورق...هكذا يذبح الإبداع على مأدبة السمسار.......رفعت القلم وغليلها لم يشف بعد...صرخت الذاكرة من جديد العصيان ...خارطة الطرقان..عاصفة الحرمان..لن نهان ..لن نهان، أغمي عليها..استفاقت بعد حين على لسحة قطتها الوفية...أطفأت قنديلها المهشم بلهجة قمع رسمية...سلمت نفسها للنوم المؤقت وهي تردد في نفسها نامي فما فاز إلا النوام.