يكتسي موضوع العلاقات المغاربية الإفريقية أهميةً خاصة، ليس بسبب أن إفريقيا عمق إستراتيجي للمغرب العربي، وأحد أعمدته التاريخية والحضارية فحسب، بل لأن العلاقة بين الطرفين المتكاملين بحاجة إلى إعادة صياغة وتطوير وتجديد. ولربما تأخر الوقت بالمغاربيين لامتلاك الجرأة للإقرار بأن مكانة إفريقيا في اختياراتهم وإستراتيجياتهم كانت شاحبة وجدّ متواضعة. فإذا وضعنا الأصول التاريخية والحضارية جانباً، وتساءلنا عن المحددات الجغرافية والمجالية، فهل المغرب عربي أم إفريقي؟ وهل التمييز أصلاً وارد وجائز من الناحية التاريخية والواقعية، لاسيما أن الدول المغاربية الخمس تقع في الجناح الشمالي لإفريقيا، وهي بالنسبة لهذه الأخيرة جسر نحو بقية العالم العربي وأوروبا؟ فمن زاوية اللغة والدين والموروث التاريخي والحضاري، لا يشك أحد في عروبة بلاد المغرب وإسلاميتها، فقد دخل العربُ بلاد المغرب فاتحين، فامتزجوا بمن انتسبوا واستقروا في هذه الربوع، وشكلوا بالتدريج إمبراطوريات ودولاً، كان لها نصيب بارز في البناء والتشييد والتوحيد، بل إن حظَّها من الامتداد وصل الأندلس وبعض التّخوم الأوروبية. بيد أن للمغرب جذوراً إفريقية، نسجَ خيوطها الإسلام، وعمقتها حركات التجارة وانسياب رؤوس الأموال، ووسعت دائرة امتدادها البشري موجات الهجرة المتعاقبة في الزمن. فإذا كان التواصل حاصلاً بين العنصر الأمازيغي ونظيره الزنجي في إفريقيا حتى قبل استقرار الإسلام وصيرورته الإطار الحضاري والأيديولوجي، فإن دفعة نوعية هامة تحققت مع تشكّل الولايات العربية الإسلامية الأولى في بلاد المغرب، تجسّدت في التمازج الإثني والبشري، والعلاقات الاقتصادية والتجارية، وقد ظلت، في كل الأحوال، متأرجحة بين التعاون تارة، والتوتر طوراً آخر، غير أنها انتعشت بفعل هذا المعطى الحضاري الجديد. ثمة معاينة قوامها أن التمازج الإثني والحضاري الحاصل تاريخيا بين بلاد المغرب وجزء هام من إفريقيا لم يتعمق أكثر، ولم يحافظ على ديمومته، بل إن متغيرات عديدة ساهمت في إضعافه، تارة بوعي وطورا بدونه. وقد شجعت السيرورات التاريخية (الاستعمار أساساً) التي شهدتها إفريقيا بكل أجنحتها ومناطقها على تكوين صورة نمطية، مفادها أن إفريقيا لا تحضر ضمن دائرة اهتمام المغاربة إلا حين يكونون في حاجة إليها، وأنها تدخل مدار الإهمال عندما لا تضطرهم ظروفهم إلى الانفتاح عليها. والحال أن إحساساً من هذا النوع من قبل الأفارقة وجد تفاعلاً في العديد من الكتابات، سواء من لدن من اعتمدوا لغة الدفاع عن التمازج العربي الإفريقي، أو من لمسوا في هذا المعطى ذريعة لتعميق الشرخ بين العرب والأفارقة، لاسيما في متن الكتابات الأوروبية والغربية، وهي كثيرة ومتوافرة. ليس ثمة شك في أن الصورة النمطية أعلاه تجد مبرراتها الموضوعية في أكثر من محطة من تاريخ العلاقات المغاربية الإفريقية. ونزعم أنه ليست الحقبة المعاصرة وحدها المسؤولة عن تشكيل قَسَمات هذه الصورة، بل يختزن التاريخ بدوره موروثاً معقداً ومركباً، يساهم بشكل كبير في الحيلولة دون تبديد عناصر الإعاقة في العلاقة بين الطرفين. فمن جهة، طغت لحظات التوتر على غيرها من لحظات التعاون، وبدت إفريقيا وكأنها على الدوام موضوع استنزاف وتبديد لخيراتِها ليس إلا. والحال أن الواقع لم يكن على هذا الحال، وإلا بماذا نُفسر الحركة الاقتصادية المتنامية في ممالك إفريقيا وتخومها، والتي لعب فيها الجمل والتجارة عبر الصحراء أدواراً مفصلية؟! صحيح أن الانتعاش الاقتصادي والتجاري الناجم، بدرجة أساسية، عن سيادة تجارة القوافل دخل مرحلة الانكماش مع استبدال الجمل بالأسطول البحري، وفق تعبير الإسطوغرافيا الأوروبية، وصحيح كذلك أن النظرة الخاصة للعرب لمفهوم الأسطول، باعتباره موجهاً للحرب وليس التجارة، ساهم بدوره في تعميق الانكماش وتوسيع دائرته، ودفع بالنتيجة إلى ترسيم التباعد بين العرب والأفارقة، وقد زادت التجارب السياسية الفاشلة في دول الطرفين في تعميق الهوة بينهما. تنهض الرؤية الإستراتيجية لإعادة بناء العلاقة بين بلاد المغرب وإفريقيا على جملة دعامات، نخالها أربع، هي تحديداً: تبديد الصورة النمطية المتبادلة بين الطرفين، والتي تجعل الإفريقي في خط التباين والتناقض مع العربي، تارة بالاستناد إلى مقاييس الجنس والعنصر، وطوراً بالتأكيد على اللغة والدين والثقافة. والحال أنها في مجملها مرتكزات لا تستند على أي حجية علمية وتاريخية، بيد أنها فعلت فعلها السلبي في التشويش على العلاقة المنشودة بين المغاربيين والأفارقة، وهو ما يشكل اليوم مشروعا بالغ الأهمية في إعادة بناء صورة جديدة تنزع الطابع الأيديولوجي الذي لَفّ العلاقة بين الطرفين. ونعتقد أن للجامعات ومؤسسات البحث العلمي دوراً مفصلياً في نسج قسمات الصورة الجديدة. تتعلق الدعامة الثانية بما يمكن تسميته إستراتيجية تحديد الأولويات، فالعلاقة التي تبتغي النجاعة والكفاية تحتاج إلى هندسة، بالمعنى الذي يحيل على وضوح المشروع، وجدواه، وترتيب مدارجه في الزمن، وتصور كلفته، وتوقع مُخرجاته وإسقاطاته في الأزمنة القريبة والمتوسطة والطويلة. والحال أن عملاً من هذا النوع يحتاج أولاً إلى إرادة واعية بقيمة المشروع وإستراتيجية الآفاق التي يفتحها، والتحديات التي تعترض مسيرته، فهو من قبيل الإستراتيجيات الكبرى التي تحقق الإقلاع العام للدول والبلدان المنتصرة له. فالحاصل أن شيئاً من هذا القبيل لم يتحقق، وأنه رغم بنية العلاقات الثنائية، والتواجد الفعلي للدول المغاربية داخل منظمة الوحدة الإفريقية قبل أن تتحول إلى الاتحاد الإفريقي، ما زال المشروع غائباً، بل إن العلاقات البينية نفسها لم تُدرك عتبة ما وصلت إليه نظيراتُها في مناطق أخرى من العالم. ولكي يتمكن المغاربيون من تحديد أولوياتهم حيال إفريقيا، يستوجب بناء ذاتهم، أي بناء فضائهم المغاربي المشترك. ولعل ذلك هو الكلفة اللاّزمة لإعادة صياغة علاقات متوازنة وناجعة مع محيطهم وجوارهم. فهكذا، تكمن قيمة هذه الدعامة في كون البناء المغاربي المشترك عند تحقيقه سيُعطي لدول الجوار ضمانة ودليلاً على صدقية المشروع الذي تروم بلاد المغرب تأسِيسَه بمعيتهم، كما سيمنح المغاربيين أنفسهم قوة وقدرة على التفاوض والحوار والإنجاز. غير أن المشروع المغاربي الجديد الواجب تأسيسه، وهذه هي الدعامة الرابعة، مطالب بأن ينهض ويقوم على ثلاث قيم غير قابلة للفصل أو الانتقاء، وهي تحديداً: المعرفة، باعتبارها مفتاح التنمية ومنتِجة الرفاه، والحرية، بسبب أنها الفريضة الغائبة في المجال السياسي المغاربي غير أنها المطلوبة والضرورية، والعدالة الاجتماعية لكونها الوعاء الحاضن لمفهوم المواطنة، والإطار الذي يحفز الناس على التفاعل الإيجابي مع دولهم أولاً وفي علاقتهم مع محيطهم المغاربي والإفريقي ثانياً. إنها عناصر الرؤية الجديدة التي تستدعي الاجتهاد الجماعي في تدقيق وتفصيل مكوناتها كي تستقيم العلاقات المغاربية الإفريقية، وتنتج ثمارها.