لايعرفه أحد ويشبه الكثيرين. البؤساء أمثالي يعرفونه جيدا وإن كانوا لم يقابلوه يوما. من الصعب جدا أن تقابله أو أن يجمعك به مكان واحد. بيد أن خرافته لم تبدأ معه صغيرا. كان مثلي ومثلك، يأخذ الخبز إلى الفرن، ويبكي بحرقة كلما لامس الصابون عينيه في حمام الأحد الإجباري. مثلنا كان يخشى أطفال الحي الأكبر سنا، وكان يتودد لهم مااستطاع إذ يشتري لهم الحلوى من ريالات يسرقها لأمه عندما يأخذ الخبز إلى الفرن. تذكرون أنه يأخذ الخبز للفرن مثلنا. علاقته بكبار الحي تنمو بينما نزداد انكماشا، ويغدق عليهم فينفذوا أوامره، كأن يطلب منهم أن يضربوا هذا أو يشدّوا أذن ذاك لمجرد أنه لايطيقهم أو إرضاء لرغبة ذاتية في رؤية الدمع ينط من عيونهم. ولأنه كائن مثلي ومثلك، فإنه يخضع لما نخضع له، أي أن جسده يبدأ في النمو ليلفي نفسه شابا، يضيق صدره بوضعه الاجتماعي المزري، ويريد أن يحسن وضعه ويغادر الحي الشعبي حيث ولد، نشأ وتربى، ويوجه أحلام يقظته إلى ما استقر في يقينه من سبل تخلصه من فقر لازم عائلته والجيران. ولأنه فقير مثلي ومثلك، فإنه يشتغل صيفا ليشتري لوازم الدراسة، وملابس الدخول المدرسي الجديد كيما يبدو أكثر وسامة. وفي العمل الصيفي يتعلم حب الريال، ويكرس مبدأ الغش الذي أهدته إياه مشكورة، مقاعد التحصيل. تفترق مساراتنا لأنه لم يكمل دراسته، إذ اقتنع بلا جدواها في وطن لايحب الأبيض والأسود في الورق، وإنما الملونة منها. يغيب طويلا ولانلتفت إليه، ولانكاد نذكره إلا عندما نراه في حينا، يتعقب أحد أصحاب الياقات البيضاء الأنيقة، مندلق البطن، منتفخ الأوداج، تعكر رائحته الزكية روائح القمامة ومياه الصرف التي كبرنا بجانبها. يضع منديلا على أنفه، ويقول إنه سيخلصنا من هذا الشقاء الذي تساكنا معه. ولأن السذاجة طبعنا فإننا نصدق ما يقول وما لايقول، فنحمل صاحبه على أكتافنا لنجلسه مقعدا رآه في أحلام يقظته، ويختفيا ونبقى، وننساه ونركن إلى تفاصيل حياتنا الصغيرة. ولانلتفت إليه، ولانكاد نذكره إلا عندما نراه في حينا بعد طول غياب، بياقة بيضاء أنيقة، مندلق البطن، منتفخ الأوداج، تعكر رائحته الزكية روائح القمامة ومياه الصرف التي كبرنا بجانبها. يضع منديلا على أنفه، ويقول إنه سيخلصنا من هذا الشقاء الذي تساكنا معه، ونلمح من خلفه شاب زائغ البصر يعرفه شباب حينا. ويختفيا ونبقى...