ربما كانت المرة الأولى التي ينتج فيها فيلم في أوربا يحمل بعضا من المعاني الحقيقية للإسلام، فيبعدنا عن سيمفونية العنف والتشدد التي عزف عليها الغربيون باستمرار، ويأخذنا إلى حقيقة المجتمع الإسلامي وما يحتضن من رحمة وتسامح وحب للآخرين. الفيلم هو: بون فواياج le grande voyage للكاتب إسماعيل فروخي الذي حصل على جائزة ليون ديو فيتيور Lion du futur في احتفال موسترا دى فنيس Mostra de Venise لعام .2004 يروي الفيلم قصة تناقض ثقافي بارز بين أب وابنه يرجع لاختلاف البيئة التي عاش كل منهما فيها، فتبتعد مسافات الالتقاء بينهما، فالابن رضا طالب في العشرين من عمره، يعيش في إقليم بروفونس بفرنسا مع عائلته، في حين ينحدر أبوه من المغرب التي قضى بها معظم حياته في أحد المجتمعات البدوية التي تعيش في الصحراء، ثم اضطرته قسوة الحياة وشظف العيش للسفر إلى فرنسا، وهناك عمل وأقام واستقر، لكنه كان حريصا على هويته الأصلية، فالتزم الحديث باللغة العربية وأداء الفرائض الدينية من الصلوات الخمس والصوم في رمضان وأداء الزكاة، وهو ما يثير عليه سخط ابنه رضا الذي لا يكف عن إبداء تعجبه من تصرفات أبيه الذي يدفع واجبه من الزكاة وهو في أشد الحاجة للمال، فالابن رضا كان شديد التأثر بالمجتمع الفرنسي في ثقافته وعاداته وسلوكه، ولم يكن يرى مانعا من أن يقضي حياته بين الخمور والفتيات. وعندما شاب الأب وبلغ به الكبر أراد أن يكمل واجباته الدينية بأداء فريضة الحج، فطلب من ابنه أن يتولى توصيله بالسيارة إلى مكةالمكرمة.. كان الوقت قبيل امتحانات رضا المؤهلة للالتحاق بالجامعة مباشرة، فوقف رضا موقف الرفض من طلب أبيه، فالرحلة بالنسبة له تبدو شاقة جدا والوقت غير مناسب. ومن هنا نشب الصراع بين الأب وابنه الذي انتهى بموافقة الابن على طلب أبيه. شهدت الرحلة الطويلة التي بدأت من فرنسا وانتهت في مكة حوارا مثيرا ترتفع وتيرته وتنخفض بحسب طبيعة ومستوى علاقة الأب وابنه.. تقلبات كثيرة، بداية من حدة الحوار والثورة، حيث التناقض بين الاثنين، إلى أوقات السكون لعدم وجود لغة تفاهم بينهما، فيرفض كل منهما آراء وتصرفات الآخر، ويحاول كل منهما أن يقضي هذه الرحلة حسب طباعه وعاداته.. ولكن بعد مضي ليالٍ طويلة في السيارة سويا بدأ ينتقل الحوار من لغة الاحترام فقط إلى التفاهم والمودة، وتقبل كل منهما للآخر، فبدأت بذور الحب تنبت بينهما بعدما كانت الرابطة الأسرية مهددة ومفككة.. وتتطور العلاقة بينهما حتى تظهر شخصية أخرى للشاب رضا، فهو لم يعد يستجيب لمكالمة صديقته الهاتفية بعدما كان يحاول من قبل اقتناص اللحظات لإرسال الرسائل الهاتفية لها مستفيدا من زحام الشوارع وانشغال أبيه في الرحلة!. وقد نجح هنا الكاتب إسماعيل فروخي في إبراز أهداف الفيلم من خلال استخدام فكرة Road Movie، فاستطاع بها أن يوضح كيفية التعايش بين الأب وأبيه، فبالرغم من التناقضات بين شخصين أحدهما عربي والآخر فرنسي، فقد وصلا في النهاية إلى التفاهم. وكان اختيار الكاتب لرحلة مكة اختيارا موفقا، فهو المكان الوحيد الذي يجعل شخصين مهما كان درجة الاختلاف بينهما مجبرَين على قضاء هذه الرحلة معا، وبالتالي يدفعهما للحديث معا، ومن هنا يبدأ التعايش. تعود فكرة الفيلم لتجربة للكاتب نفسه، فقد ولد في يونيو 1962 في المغرب، ثم سافر إلى فرنسا مع عائلته وهو في الثالثة من عمره، وعندما كان طفلا قام والده برحلة سفر إلى مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج بالسيارة، ولم يستطع إسماعيل أن يصدق قرار والده، فشعر أنه مجرد حلم خادع أو هلوسة، ولكنه فكر في أن على أبيه أن يروي له هذه المغامرة في يوم من الأيام. اختزن الكاتب الفكرة في وعيه إلى أن بلورها فعلياً من خلال هذا الفيلم، حاملا معانيَ عديدة، اجتماعية وتربوية ودينية. وقد اهتم الرأي العام الفرنسي بالفيلم، وإن اختلف الاستقبال ما بين إعجاب ونقد، فكتبت مجلة إكسبريس تشيد بالكاتب ونجاحه في تقديم قصة إنسانية بسيطة، بعيدا عن تعقيدات الدراما، وإن عابت عليه بعض المآخذ الفنية، واهتمت مجلة سيني لايف بالفيلم وقدمت نقدا فنيا له، وامتدحت مجلة تيليراما الفيلم وقدرته على التأثير وواقعيته وصدقه، ونوهت بالظروف التي نفذ فيها السيناريو بدقة بالغة، مشيدة بأنه نجح لأول مرة في عرض تصوير حقيقي لمكة. وأشارت بعض الصحف إلى اهتمام شرائح كثيرة من المشاهدين الفرنسيين بالفيلم وإعجابهم به خاصة بتلك العلاقة التي جمعت بين الأب الهادئ المتسلط وابنه المنحرف الأخلاق، لكنه شديد الاحترام لأبيه، وكان مما أثار إعجاب المشاهدين -كما ذكرت التغطيات الإعلامية- سلسلة الحوارات والبلاد التي مر بها أبطال الفيلم، وجعلت المشاهدين وكأنهم يشاركونهم الرحلة. وكان من الطريف أن بعض المشاهدين الذي أعجبوا بالفيلم تبنوا الدعوة والترويج له، باعتباره يجعلنا نفتح أعيننا على واقع الإسلام بعيدا عن التشوهات التي ينسبها إليه الإعلام العالمي، ولقد خرج بعضهم شديد التأثر بما يحمله الفيلم من دراما تصور علاقات بالغة الإنسانية بين الأب وابنه، استطاع من خلالها الكاتب إسماعيل فروخي أن يوصل لمسات إنسانية جميلة عن المسلمين. باختصار فإن رحلة سعيدة فيلم يحمل رسالة جميلة، وربما يكون بداية لتغيير أفكار مشوهة استقرت في وعي المشاهد الغربي عن الإسلام، بما يؤكد أنه ربما كان علينا أن نراهن على السينما كطريق للدفاع عن صورة الإسلام!. شيرين الحباك باحثة ماجستير في الشؤون الأوربية إسلام أون لاين / بتصرف