بعد الحديث عن مبرر هذه المادة العلمية، والحديث عن حقيقة الاجتهاد وأنواعه وحكمه، وكذا الاجتهاد بين الاستمرارية والانقطاع، والحديث عن مجال الاجتهاد والحديث عن شروط الاجتهاد، سنتناول في الحلقات الأربع الموالية مفهوم ملكة الاجتهاد ومستويات تربيتها،فما معنى تربية الملكة لغة واصطلاحا؟وكيف السبيل إلى تربية الملكة؟ معنى تربية الملكة -التربية في أبسط معانيها تعني (إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام )(1). -أما الملكة في اللغة: فأصلها من ملك الشيء يملك ملكا:حازه وانفرد بالتصرف فيه، يقال ملك العجين: يملكه ملكا وأملكه:عجنه فأنعم عجنه وأجاد(2)، واِلملْك: احتواء الشيء والقدرة على التصرف فيه والاستبداد به، ويملك نفسه: أي يقدر على حبسها عما لا ينبغي، وكل من يملك فهو مالك، ومالك الدار:صاحبها وربها، ومالك الناس:ربهم والمتصرف بالأمر والنهي فيهم.ومالك يوم الدين: الله تعالى يملك إقامة يوم الحساب، وهو الملك في يوم الدين.فالجانب اللغوي يفيد التملك والإجادة والاحتواء على الشيء والقدرة على التصرف فيه. الملكة في اصطلاح العلماء وأما في اصطلاح العلماء: فالمعنى غير بعيد عن الأصول اللغوية يقول الجرجاني:الملكة صفة راسخة في النفس(3)، فقوة التملك للعلم والصنعة ورسوخها في أعماق القلب والنفس والعقل، جعلها وكأنها صفة لازمة.وقريب من هذا التعريف، يقول صاحب كشف الظنون:والملكة كيفية راسخة في النفس لا تزول بسرعة(4). أمر زائد على مجرد جمع العلوم فالملكة شيء زائد على مجرد جمع العلوم والمعارف، وإن كان جمعها وتحصيلها من لوازمها وشروطها وأسبابها، فحصول الملكة كما يقول صاحب أبجد العلوم:متوقف على جمع تلك العلوم ولا يلزم من جمعها حصولها، لأنها كالآلة مثل آلة النجار فإنه قد يعرف كيفية النجارة ويتصورها ويجمع آلاتها، ولا يمكنه أن يحكم الصناعة كلية(5). الملكة أكثر من مجرد فهم العلم والملكة أكثر من مجرد فهم العلم ،يقول مصطفى بن عبد الله القسطنطيني: واعلم أن الحذاقة والتفنن في العلم والاستيلاء عليه إنما هو بحصول الملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله وهذه الملكة هي غير الفهم(6). الملكة مستوى متقدم في مراتب العلم فالملكة مستوى متقدم في مراتب العلم، والعلم يطلق على مجموع:المسائل والمبادئ التصورية والمبادئ التصديقية والموضوعات، فهو يطلق كما يقال: فلان يعلم النحو، وتارة على التصديقات بتلك المسائل، وتارة على الملكة الحاصلة من تكرار تلك التصديقات، أي:ملكة استحضارها، وقد يطلق الملكة على التهيؤ التام وهو أن يكون عنده ما يكفيه لاستعلام ما يراد(7). الملكة إنتاج وتصرف وإبداع فلا يحصل العالم على الملكة بمجرد استحضار ما تعلمه وتكرار ما قيل قبله، كما الشاعر لا يسمى كذلك ولا الأديب، بمجرد حفظ الأشعار والنصوص مهما بلغت في الكثرة ما لم ينتقل إلى مرحلة الإنتاج والتصرف المبدع في مجاله، ومواجهة الحالات الطارئة والجديدة بما يناسبها. ولا يعتبر ذا شأن في مجاله حتى يحصل: ملكة نفسانية يقتدر بها صاحبها على النظر في الأحوال العارضة، لموضوع ما من جهة ما بحيث يؤدي إلى الغرض(8). وكما هو مشاهد ومعلوم، فالعلماء ليسوا على مرتبة واحدة في نفس العلم، وإن عدوا من رجاله، فمنهم:من له في العلم ملكة تامة ودربة كافية وتجارب وثيقة وحدس صائب وفهم ثاقب، فتصانيفهم تنبئ عن قوة تبصرة ونفاذ فكر وسداد رأي(9)ومنهم دون ذلك. الملكة عقل مزيد والملكة عقل مزيد وثمرة للتعمق في العلم، يقول صاحب كشف الظنون:فثبت أن كل نوع من العلوم والنظر يفيدها عقلا مزيدا وكذا الملكات الصناعية تفيد عقلا والكتابة من بين الصنائع أكثر افادة لذلك (...)، فهو ينتقل من دليل إلى دليل، وتتعود النفس ذلك دائما فتحصل لها ملكة الانتقال من الأدلة إلى المدلول، وهو معنى النظر العقلي الذي يكسب به العلوم المجهولة فيحصل بذلك زيادة عقل ومزيد فطنة، وهذا هو ثمرة التعلم في الدنيا(10)، وهي تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك(11). كيف السبيل إلى الملكة؟ الملكة تحتاج إلى تدرج قال الجرجاني مباشرة عقب تعريفه السابق للملكة: وتحقيقه: أنه تحصل للنفس هيئة، بسبب فعل من الأفعال. ويقال: لتلك الهيئة: كيفية نفسانية. وتسمى: حالة، ما دامت سريعة الزوال. فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها، وصارت بطيئة الزوال، فتصير ملكة. وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا(12). وقد أفاد النص في طريقة تكون الملكة وتمكنها في النفس بحيث لا تحدث فجأة، وإنما تحصل بالتدرج والممارسة والتكرار، حتى تصبح راسخة وكأنها جزء من النفس، بحيث تكون لها عادة وخلقا، لا تتكلفها كما الأمر عند البدايات.فلا يصبح الأمر ملكة حتى يصدر عن صاحبه في يسر وسهولة، وأما مع الصعوبة والعسر ففيه مؤشر على التكون وعدم الاكتمال، فالخلق مثلا لا يعتبر طبيعة للنفس حتى يصيرملكة يصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير فكر وروية(13). الملكة طبيعة وكسب فالملكة قد يجتمع فيها ما هو طبيعي جبلي، والآخر عادي يكتسب، ومما يعنيه الجانب الأول أن يكون الشخص في أصل الفطرة مستعد لكيفية خاصة كامنة بحيث يتكيف بها بأدنى سبب(...)وأما العادية فهي أن يزاول في الابتداء فعلا باختياره، وبتكرره والتمرن عليه، تصير ملكة حتى يصدر عنه الفعل بسهولة من غير روية(14). الملكة تمرن وممارسة كثيفة السعي لتحصيل الملكة موقوف على الأخذ والتعلم والتمرن والتدرب والممارسة والمخالطة الشديدة للعلم، سئل ابن القيم رحمه الله، هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فقال:هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعرف ذلك: من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بدمه ولحمه، وصار له فيها ملكة واختصاص شديد، بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه :فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة. بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه الكرام، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه وأقواله وأفعاله، وما يجوز أن يخبر عنه وما لا يجوز، ما لا يعرف غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه، فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون من أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم وأساليبهم ومشاربهم ما لا يعرفه غيرهم(15). ومن المخالطة الشديدة للعلم والتعمق فيه، اعتماد المصنفات الأصيلة التي تعتمد التوسع في الفن المطلوب وتقصد استيعابه وذلك لكثرة ما فيها من التكرار والاطالة المفيدين لحصول الملكة التامة(16). الجد في الطلب وكثرة الشيوخ الملكة تحصل بكثرة الشيوخ والمباشرة والتلقين والرحلة في طلب العلم، جاء في كشف الظنون:إن الرحلة في الطلب مفيدة وسبب ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه من المذاهب: تارة علما وتعليما وإلقاء ، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات على المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكة ورسوخها(17). مجرد الحفظ لا يعطي ملكة ومجرد الحفظ وتكرار العلم من غير عمق في الفهم لا يعطي ملكة فيه، إذ لا بد من المناقشة والمطارحة وتبادل الرأي فيما يتم تحصيله مع أهل الفن، لأنمطارحة ساعة خير من تكرار شهر(18). يقول صاحب كشف الظنون:من كان عنايته بالحفظ أكثر من عنايته إلى تحصيل الملكة، لا يحصل على طائل من ملكة التصرف في العلم، ولذلك ترى من حصل الحفظ لا يحسن شيئا من الفن، وتجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر. ومن ظن انه المقصود من الملكة العلمية فقد أخطا وإنما المقصود هو ملكة الاستخراج والاستنباط وسرعة الانتقال من الدوال أو المدلولات ومن اللازم إلى الملزوم وبالعكس فان انضم إليها ملكة الاستحضار فنعم المطلوب(19). الملكة بحسب ما يحصل أولا ويعتقد بعض العلماء أن الملكة بحسب ما يحصل أولا، أي أن فراغ النفس يساعد على تمكن ورسوخ ما سبق إليها من ملكات. ويمثلون لذلك باللغة فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية، لان الملكة إذا تقدمت في صناعة ،قل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى(20). الملكة فضل من الله تعالى وما يهم الراغب في تحصيل الملكة هو الجد وبذل الوسع والطاقة وإتيان أسباب الملكة من غير تعلق بها أو اغترار، وإنما هو تعلق بخالق الأسباب، حتى يجود بكرمه وتوفيقه وسداده.ويتأكد هذا في الملكات التي لها تعلق بالدين وسوق الآخرة فالعالم قد يجمع جميع العلوم وتحصل له تلك الكيفية التي هي الملكة، ولا يمكنه العمل بتلك الملكة، أو يمكنه العمل في بعض ولا يمكنه العمل الكامل(...)فهي عطايا وحظوظ، وقد عثر المتأخر على أدلة قد عجز عنها الأوائل، وصنع في التصانيف مالا يقدر عليه الأماثل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(21). الهوامش: 1. الراغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن ص/.189 2. لسان العرب:ج:01 ص:.594 3. علي بن محمد بن علي الجرجاني(ت 816ه) التعريفات ج:1 ص: ,296 تحقيق: إبراهيم الأبياري، ط: الأولى ,1405 دار الكتاب العربي، بيروت. 4. كشف الظنون ج:1 ص:.53 5. صديق حسن القنوجي (ت 1307 ه)أبجد العلوم ج:1 ص:.151 6. كشف الظنون ج:1 ص: .41 7. كشف الظنون ج:1 ص: .6 8. كشف الظنون ج:1 ص: .42 9. كشف الظنون ج:1 ص: .38 10. كشف الظنون ج:1 ص:.25 11. محمد عثمان شبير تكوين الملكة الفقهية، كتاب الأمة، العدد (72)رجب 1420 ه، السنة التاسعة عشرة. 12. التعريفات ج:1 ص:.692 13. كشف الظنون ج:1 ص:.53 14. كشف الظنون ج:1 ص:53 .36 15. محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله (ت 751ه)نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول ج:1 ص:23 تحقيق:حسن السماعي سويدان، دار القادري، بيروت، 1411 ,1990 الطبعة :الأولى. 16. كشف الظنون ج:1 ص:.44 17. كشف الظنون ج1: ص:24.43 18. أبجد العلوم ج:1 ص:.342 19. كشف الظنون ج:1 ص:.44 20. كشف الظنون ج:1 ص:55 ويقول بعد ذلك أيضا:فإذا سبقت الى محله ملكة أخرى قصرت عن تمام تلك الملكة اللاحقة لان قبول الملكات وحصولها على الفطرة الأولى أسهل وإذا تقدمتها ملكات أخرى كانت منازعة لها فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق) 21. أبجد العلوم ج:1 ص:.251