سجل التاريخ المعاصر على العالم الأوروبي انسلاخه من الدين ونبذه جملة وتفصيلا من حياة الدولة والناس، وأحدثت قطيعة مع القيم العليا التي خلق الإنسان من أجلها، امتدت آثارها إلى بقاع كبيرة من الأرض، وطبعت مجتمعاتها بالتفسخ والانحلال الخلقي. حصل ذلك بعد أن ضاقت الدنيا بالرجل الأوربي من تعاليم الكنيسة التي حالت دون اكتشاف السنن الكونية في عالم الشهادة، وأشاعت بين أتباعها والناس أن كل ما تفسره الكنيسة من نظريات حول الظواهر الكونية هو الحقيقة المطلقة التي لا تقبل التغيير. جاء هذا الانفصال عن الدين في أوربا حين اكتشف العقل الأوروبي حقائق علمية كانت مجهولة لأوربا من قبل، ومنها قانون السببية لنيوتن ونظرية النسبية لأنشتاين ونظرية دوران الأرض لغاليلو... فتحول الفكر الأوربي من النقيض إلى النقيض، واندفع عندئذ في الطريق الجديد حتى تنكر لمسبب الأسباب ومنشئ الكون، واتخذ من الطبيعة ندا لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأعلنت عندها نظام العلمانية في دستورها، وتنكرت لجميع الأديان السماوية، ولو اقتصرت أوربا على إزاحة الكنيسة التي تمثل المسيحية عن طريقها نحو اكتشاف أسرار هذا الكون لكانت على صواب، وقلنا لها أنت على صواب وتلك هي الوجهة الصحيحة، لكنها أوربا قطعت مع كل دين وأعلنت علمانية، فاصلة أي دين عن الدولة، شعارها في تلك الخطوة الخاطئة ليس في القنافذ أملس. كان هذا في القرن الماضي، أما في القرن الواحد والعشرين وفي أمريكا المتحضرة نسبيا فإن موجة من الإلحاد بدأت تطفو على السطح من جديد لتمحو أي وجود للإله في حياة الناس، وبالأحرى أن يكون دينا مطبوعا بوحي سماوي، وظهرت في شوارع أمريكا طوائف تطالب بالتشطيب على عبارة ترمز إلى الفكر الديني، وإن كان الدين المسيحي، وترفض هذه الطائفة أن تلتقط آذانها كلمة في ظل الله أعلن عنها دستور دولة ظن مفكروها أو منظروها أن حضارتها تمثل نهاية التاريخ نظرية فوكوياما وأي نهاية للتاريخ وأي حضارة لدولة عاجزة حتى الآن عن تحقيق توازنات بين مطالب عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين مطالب الدنيا والآخرة، وبين مطالب الجسد ومطالب العقل والروح، بل أكثر من ذلك أنها نصبت نفسها وصية على الشعوب تحملهم على تطبيق تعاليم النظام الدولي الجديد، واتخاذ النموذج الأمريكي القدوة التي لا بديل عنها، فبينما انتقلت أوروبا من دين بلا حضارة إلى حضارة بلا دين، هاهي أمريكا اليوم تشهد مطالب لموجة جديدة من الإلحاد والتنكر لله الواحد الأحد الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، القوة العليا الخارجة عن الذات وعن الكون المادي الذي يعيش فيه الإنسان. وكنا نظن أن العالم المتحضر اليوم بفضل الجهود العلمية، سينحو منحى جديدا نحو الحقيقة المطلقة التي أدركها البدوي قديما بفطرته حين استدل على الخالق بقولته المشهورة: >البعرة تدل على البعير<، وكذا اكتشاف أسرار هذا الكون تدل على الخالق المدبر الحكيم العزيز المتعال... وإذا بنا نسمع بطوائف من الناس من المتمردين على الفطرة يريدون حياة بلا ضوابط وحرية بلا أخلاق وكونا بلا إله. إن المشاكل العقائدية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والسياسية... التي يعاني منها جل ساكنة العالم اليوم ليس حلها في الانسلاخ من الدين والبعد عن الله، بل إن هذه المشاكل يخف ضغطها على الناس بقدر ما يتقربون إلى الله خالقهم ومدبر أمرهم. إن الدين الإسلام تحديدا ليس خطرا على الحضارة، كما أن وجود الله في حياة البشرية ليس خطرا عليها في الماضي والحاضر والمستقبل حتى تدعو إلى إزاحة ما يربطها بربها في هذه الحياة، لأن الإسلام لم ولن يحارب التقدم التيكنولوجي الذي أسس على المنهج العلمي التجريبي المحض، لعلاقته بحسن الأخذ بالأسباب، ولم ولن يكون ضد ما تنتجه الحضارة المادية. ولليقين فإنه كلما تقدم العالم اليوم في اكتشاف ما حوله، كلما احتاج إلى الدين الذي سيغير ما بأنفس الناس حتى يغيروا نظرتهم إلى الأشياء، فهو النموذج البديل والأمثل القادر على تصحيح الكثير من الانحرافات المعاصرة وعلى رأسها الإلحاد الصريح. محمد إدمبارك