كانت مهمة بطرس غالي على رأس الأمانة العامة للأمم المتحدة أعسر من مهمة جميع أسلافه لأن بدءها قد تزامن مع انتهاء نظام ثنائية الاستقطاب الناجم عن تفكك الاتحاد السوفييتي (أي مع انتهاء النظام الذي ظل حافظا لتوازن القوى الدولي منذ إنشاء الأممالمتحدة). بل إن مهمته ربما كانت شبه مستحيلة أصلا بحكم أن بدءها قد تزامن مع بدء تفرد أمريكا بالهيمنة العالمية. كان في وسع بطرس غالي أن يسهل وضعه بعض الشىء لو أنه اجتهد في اتقاء شر أمريكا، خصوصا أنه سرعان ما تأكد أنها «تحب أن تكرهه»، كما يقول التعبير الانكليزي. ولكن سعة خبرته الأكاديمية بالعلاقات الدولية وبالقانون الدولي وأصالة انتمائه لمجموعة دول العالم الثالث الفقيرة التي لا يحسب لها في النظام الدولي حساب حالتا دون جنوحه إلى المهادنة و»سد الذرائع». ولهذا فإن تصميم غالي على الاضطلاع بدوره الدبلوماسي الدولي بكامل الاستقلالية هو الذي أدى إلى تصميم إدارة الرئيس بيل كلنتون على»إسقاطه» ونقض ما جرى عليه العرف من منح الأمين العام ولايتين متتاليتين. وضع غالي الإدارة الأمريكية أمام واجباتها وحمّلها مسؤولياتها في مجال حفظ السلام (في الصومال ويوغسلافيا ورواندا) وفي مجال سداد ديونها (التي بلغت آنذاك حوالي مليار وثلاثمائة مليون دولار) نحو الأممالمتحدة. وكان قد ثبت له بالدليل أن السياسة الخارجية الأمريكية يعتريها الارتباك والتخبط، كما لاحظ حساسية كلنتون ضد أي موقف مستقل أو ناقد، وسرعة غضب مادلين أولبرايت وافتقارها للخصال الدبلوماسية! وقد تعللت إدارة كلنتون بجملة من الذرائع لاستخدام الفيتو ضد التجديد له، منها خلافاته مع وزير الخارجية وورن كريستوفر واحتكاكاته مع مادلين أولبرايت عندما كانت مندوبة في الأممالمتحدة ثم بعد أن صارت وزيرة، ومنها أنه «يرمز للأمم المتحدة التي يناهضها الكونغرس». أما مطالبته أمريكا بأن تشفع الأقوال بالأفعال في مجال حفظ السلام وأن تنشر عددا أكبر من جنودها في إطار القوات الدولية، فقد صورته إدارة كلنتون على أنه سعي منه «للتحكم في السلطات العسكرية الأمريكية». هذه هي الذرائع المعروفة. أما الذريعة غير المعلنة، فهو أن الرجل «لا يحسن التحدث بالانكليزية». ورغم أن ذريعة «المأخذ اللغوي» هذه تكاد تكون ذريعة صبيانية، فإنها تندرج في سياق انحياز أو تمركز ثقافي حول الذات وجد تعبيره الأوضح لدى مشاهير الفكاهيين الذين جعلوا من غالي موضوع تندّر رخيص في السهرات التلفزيونية. ومن عجب أن النيويورك تايمز اكتفت بإشارة عابرة لهذه الذريعة عام 1996، دون أن تستدرك بأن هذا الدبلوماسي والأكاديمي المرموق يحسن لغتين رسميتين من لغات الأممالمتحدة، هما العربية والفرنسية، فضلا عن أن انكليزيته مقبولة جدا ووافية بالغرض ولا تقل عن مستوى الانكليزية التي يتحدثها معظم كبار موظفي الأممالمتحدة. شاهدت بطرس غالي في كثير من حواراته بالفرنسية مع القنوات السويسرية والفرنسية، حيث كان يحرص دوما على المناداة بوجوب إحلال الديمقراطية في صلب العلاقات الدولية وإنهاء التفرقة التي تمارسها الدول المتقدمة ضد دول العالم الثالث، وينبه إلى خطورة قضايا شاملة، مثل الانفجار السكاني ونقص المياه، على الأمن والسلام في العالم. إلا أن الحوار الذي لن أنساه هو ذلك الذي أجراه معه الصحافي الثقافي الفرنسي الشهير برنار بيفو أواخر عام 1997. استضاف بيفو آنذاك في جمع غير مقصود بين الأضداد كلا من يوسف شاهين، بمناسبة تخصيص معهد العالم العربي بباريس موسما استعاديا للأفلام العربية التي شاركت في مهرجان كان، وبطرس غالي بمناسبة نشر مذكراته عن ولايته للأمانة العامة للأمم المتحدة، التي كتبها ولمّا تلتئم جراح تلك الفترة التي كان فيها مرمى لسهام الطبقة السياسية الأمريكية. وكان مما قاله غالي أنه كتب مذكراته بالانكليزية اضطرارا لا اختيارا (!) وأنه تأثر في نشأته بالكاتبين الفرنسيين هونوري دو بلزاك وأندري جيد ولكن التأثر الأبلغ كان بكتّاب عرب مثل طه حسين والعقاد. وقد كان التباين صارخا بين غالي بشخصيته الدبلوماسية المتحفظة وبين شاهين بشخصيته العفوية المتوقدة. ولأن هذا الحوار مهم وشيق، فإن غالي تطرق له في يومياته المنشورة بالفرنسية عام 2004. وهي يوميات غنية بالملاحظات والشهادات والخواطر، وقد قرأ مخطوطها قبل النشر في باريس كل من صحافي لوموند، المصري الأصل، روبرت سولي وعميد الصحافة اللبنانية الراحل غسان تويني.