المعلومة مفتاح وروح وقوة، إذ بعطاياها تتفجر مكنونات الكتاب المنزل المسطور، وتتفتق مغاليق الكون الصامت المنظور، وتستخرج من كليهما قواعد التسخير والبناء والتغيير، ولأجل ذلك كانت أول كلمة هي (اقرأ) [اقرأ:1] لتنهض الإنسانية في جميع مناحيها على أساس سليم من القراءة الواعية، فتمسك بمقاليد السموات والأرض، وأراد الله تعالى أن تكون هذه القراءة ممتدة دائبة لا تفتر ولا تتوقف، فقال تعالى: (وقل رب زدني علما)[طه: 114 ]، لأن هذا الكتاب لا يني يبوح بأسراره، ويجود بعطاياه، كما أن الكون لا ينضب معينه، ولا يفتأ يفشي خباياه، ولكنهما لا يجليان هذه الأسرار ولا تتكشف سننهما إلا لمن يحسن القراءة في سطورهما، ولذلك قال تعالى (وهذا كتاب مبارك أنزلناه)[الأنعام:92 ] كما قال:(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية:13]. ومن أجل هذا رفع الحق سبحانه وتعالى العلم والعلماء مكانا عليا فقال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(المجادلة:11). وقال:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18). والمعلومة أمانة، إذ ما أمر الله تعالى بتدبر كتابه إلا ليتفجر علما يملأ القلب نورا، والحياة ضياءً، لا لينكسف، ويتوارى، بل ليؤثر وينفع، فالمحجوب عن هداياته متحير في ظلمات طبعه وظنونه، لكن لا يقل عنه جناية من كتم نعمة الله عليه، فلم يسعَ في نشر هدايات الكتاب بعد أن تفتقت له أكمامها، فيصدع بما علمه الله صدعا ساطع البرهان قوي الحجة، لا تردد فيه، ولا خَور، بل لا أظلم ممن استودعه الله تعالى عهوده ورسالاته ثم كتمها، أو ضاق صدره ذرعا بها، فتهاون في تبليغها، عجزا أو رهَبًا أن تهيجَ ثائرة القوم، فتضيع مصالحه (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف:2). والحق أنه قد أنيط بالعلماء مسؤوليات عظيمة، تبدأ بالصدع بالمعلومة (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (الحجر: 94))، وأداء الشهادة المفروضة (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ( البقرة:42)، وتُتَوَّجُ بالاستماتة في نصرتها، وتحمل تبعات تبليغها مهما كانت باهظة التكاليف:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (الأحزاب: 39)). فإذا ما تقاصرت هممهم عن الوفاء بمقتضياتها حاق بهم سخط الله تعالى وغضبه (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)(البقرة: 140)، وقد ذم الله عز وجل أقواما كمموا أفواههم، وكتموا ما خصهم به من شهادة الحق، فقال تعالى (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة: 146)، وتوعدهم بغاية التهديد (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة 159). ولا يقف الأمر عند العلماء، فكل من سُئل شهادة مما تقتضيه موجبات العدالة، وإقامة الحقوق، فهو مطالب بالإدلاء بالشهادة، أي بالمعلومة الموثقة، كما رآها، غير منقوصة، ولا متلبسة بزور وتحريف (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (البقرة: 283). والغني مدعو إلى التصريح بممتلكاته كي تستخرج منها الزكاة بمقدارها الشرعي تامًّا غير منقوص: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النساء: 37). المصطفى أُعسو، أستاذ، وباحث بسلك الدكتوراه، جامعة ابن زهر أكادير