في الوقت الذي يرى البعض أن التنازلات في الحياة الزوجية تعتبر سدا منيعا أمام تفاقم المشاكل الزوجية التي قد تصل إلى الباب المسدود وبالتالي الوقوع في أبغض الحلال، يرى البعض الآخر أن التنازل بين الزوجين لا يمكن إجادته لأنه سيسهم في استئساد طرف على الطرف الآخر وبالتالي سيادة الظلم تحت سقف الزوجية الذي يفترض فيه أن تعم أرجاءه المودة والرحمة بدل الظلم والإهانة. وأمام اختلاف وجهات النظر تجاه التنازلات بين الزوجين تبقى للتجارب بصمتها في تقييم الآراء، كما تعتبر آراء المستشارين المختصين في قضايا الأسرة منارا يستنير به السائرون في درب بناء أهم نواة في المجتمع وهي الأسرة. وحسب المصطفى يطو المختص في علم النفس والتنمية الذاتية فإن موضوع التنازلات يشكل 50 في المائة كسبب من أسباب الخلافات الزوجية والطلاق. في هذا المقام تتناول مآلات التنازلات بين الزوجين، وآراء المختصين في المجال، وهذه التفاصيل: ضرورة زوجية (ع.ف) أمضى 18 سنة من الزواج، يرى حسب تصريحه ل"التجديد"، أن "التنازل هو فعل وخلق لابد منه كي تستمر الحياة الزوجية التي هي علاقة بين شخصين مختلفين، فلكل من الزوجين شخصيته المستقلة وهما لا شك يختلفان كل يوم في كثير من القضايا، لذلك يجب أن تكون العلاقة بينهما محكومة بتجاوز الأخطاء والتنازل عن الآراء والمواقف والتعامل بحسن الظن. ومن الخطإ الاعتقاد أن التنازل -ليس فقط في الحياة الزوجية بل في الحياة كلها- هو دليل ضعف، بل هو دليل قوة ونضج ووعي لأن الذي يحسن التنازل هو بالضرورة شخص يحسن تقدير المواقف ويعرف كيف يقدر المصلحة". واعترف (ع.ف) الأب لأربعة أبناء أن زوجته هي الأكثر تنازلا وتسامحا، وهذا تواضع منه لأنه زوجته حدثتنا هي الأخرى أن زوجها أكثر تنازلا لها، وأضاف المتحدث أن: "التنازل في الحياة الزوجية طبعا أولى من غيرها لأن العلاقة الزوجية علاقة مقدسة ويفترض في طرفيها أن يضعا مصلحة الأسرة فوق كل المصالح الشخصية، كما أن على كل منهما أن يفهم أن تنازله لشريكه إنما هو تنازل لنفسه لأنهما طرفا معادلة لا تقوم بأحدهما لوحده بل بكليهما معا". وتحدث (ع.ف) من خلال تجربته على أن: "نتائج التنازل في الحياة الزوجية هي بالإضافة إلى استقرار الأسرة واستمرارها تظهر أيضا على الشخص نفسه حيث يتعلم الصبر والتسامح والاعتذار والاعتراف بالجميل". سوء الفهم تقول الدكتورة فاطمة الكتاني الأخصائية النفسية بالرباط: "العلاقة الزوجية هي أقوى وأصعب علاقة، إنها تتأرجح ما بين حب وعداء، قرب وبعد، صعود وهبوط، طمأنينة وصراع. العلاقة الزوجية هي رباط مقدس وقانون إلهي، أما الحياة الزوجية فهي معايشة يومية تحتاج إلى اختيار كل من الزوجين للآخر على أسس من التوافق والقبول". وأثناء إقامة هذه العلاقة يطرح موضوع التنازلات بين الزوجين سواء من الناحية المادية أو المعنوية، فهناك تنازلات تطال الأمور المادية كعدم الغلاء في المهر وغيره من متطلبات الزواج، أما التنازلات على المستوى المعنوي فقد تخص تنازل البعض عن بعض عاداته التي نشأ عليها أو أفكاره التي يؤمن بها إرضاء لشريكه الجديد وطلبا للانسجام مع الوضع الجديد الذي ينصهر فيه جسمان ليكونا جسما واحدا. وتختلف وجهات النظر أمام التنازلات فهناك من يرى فيها قوة شخصية وتجاوزا لبعض الجزئيات في سبيل السير السليم لعجلة الزواج، فيما يراها البعض الآخر ضعفا للشخصية وتمهيدا لمشاكل لا تحمد عقباها لأنها ستفتح الباب أمام من يريد التسلق على ظهر غيره ليثبت ذاته. (ت.م) أم لطفلة عمرها الآن خمس سنوات، تحدثت ل"التجديد" وعلامات الحسرة بادية على محياها لأنها حسب تعبيرها قدمت الكثير من التنازلات لتحافظ على كيان أسرتها لكن النتيجة كانت عكس ما رسمت لها، بالنسبة لها الفشل دخل من الباب الذي أحكمت إغلاقه، والأمانة وضعتها في مكان غير آمن. استطردت (ت.م) في سرد حكايتها مع تقديم التنازلات أنها منذ الأيام الأولى لزواجها بدأت بالتنازل عن أشياء تعتبر في نظر أخريات على رأس أولويات الزواج، فقد قبلت الزواج من زوج غير مستقر ماديا ظنا منها أن أخلاقه ستغنيها عن ذلك ريثما يفتح باب الرزق، لكن هذا الأخير فتح فيما جزاء تقديم التنازل انقلب ماديا اتجاهها، وتنازلت عن حقها في ما يتعلق بما عبرت عنه بالحقوق المعنوية دون أن تكشف عنها إلا بالإيماء ظانة أن في ذلك سببا لاستمرار العلاقة فيما الأمر كان يحتاج إلى علاج آني، وخلصت المتحدثة إلى أن تقديم التنازلات ليس عيبا ولكن العيب في الطرف الذي يكون أهلا لتقديم تلك التنازلات لأن هناك من يقدر الطرف المتنازل ويرد له الجميل ويعترف له بالفضل. ختمت (ت.م) حديثها والدموع تغالب عينيها بكون ابنتها ضحية علاقة اختل فيه ميزان تقديم التنازلات، إذ في الوقت الذي قدمت الزوجة عدة تنازلات استأسد الزوج حتى فاض كأس الزوجة وأصبحت لا تطيق معه عيشا، والنتيجة خراب بيت وضياع فلذة كبد لا ذنب لها سوى أنها ولدت من طرفين لم يستطيعا ضبط إيقاع التنازلات بينهما. ولكن الزوجة وجهت نصيحة لكل مقبلة على الزواج أن لا تفرط في تقديم التنازلات بل تعطي وتأخذ وتفهم الآخر أن التنازل ليس ضعفا أو غباء وإنما حرصا على أقدس علاقة وهي الرباط المقدس. الإحباط إن قاعدة تناول الدواء تقتضي الالتزام بالجرعات المناسبة للداء المرجو علاجه، والأمر نفسه ينطبق على جرعة التنازلات بين الزوجين، فإذا تجاوزت هذه التنازلات ما يكفي أتت بنتائج عكسية وأعراض غير مرغوب فيها منها حصول الإحباط للذي قدم التنازلات بشكل مبالغ فيه. (م. ع) زوجة يبدو أن طاقتها التي تعينها على تقديم التنازلات لزوجها قد نفذت، وذلك من خلال حديثها عن تجربتها ل "التجديد" فهي من وجهة نظرها قد أعطت ما عندها دون أن يقابل ذلك عطاء من الطرف الآخر وبالتالي عليها أن تتوقف قبل أن تتحول تصرفاتها إلى عدوانية لا تطاق، قدمت تنازلات مادية وأخرى معنوية، ولكنها لم تجد من شريكها تفهما مما جعلها تنفر منه. حارت (م. ع) في أمرها وتشتت أفكارها إلى حين إقدامها على استشارة أحد مستشاري الأسرة الذي أفهمها قاعدة الجرعات وأن عليها أن تتعامل مع زوجها حسب مستوى فهمه وتشرح له ما تقدم عليه من تنازلات وعلى رغبتها في سير قطار الزوجية على سكته الصحيحة. لم تخف المتحدثة أنها غيرت من أسلوبها وفتحت باب النقاش مع زوجها بشتى الوسائل مستثمرة في ذلك التواصل الإلكتروني عبر اختيار بعض المقالات التي تتناسب مع كل أمر يخص موضوع التنازل في حياتها، في البداية لم يكن الزوج مستجيبا بالشكل المطلوب لكن مع الإلحاح بشكل سلس آتى الأسلوب أكله، ألا يقال: لابد لمدمن الطرق من الولوج"؟. الاحترام كثير من الأزواج يقدر ما يصدر عن شريكه من تنازلات سواء كانت مادية أو معنوية وبالتالي يحصد الزوجان حياة مليئة بالتقدير والاحترام، مثال ذلك ما حكى عنه أحد الأزواج من كونه لم ينس تنازلات زوجته منذ أول يوم تقدم لخطبتها، فهو الذي ينتمي لأسرة فقيرة كان لا يتوقع أن تقبل فتاة من أسرة ميسورة الزواج منه، كما أنها أثناء الاختلاف في الرأي كانت تتجه نحو القبول برأيه، لكنها مع ذلك لم تنس يوما أن الخط الأحمر الذي لا يمكن الاقتراب منه هو احترامها، وهو الشيء الذي لم يتجاوزه الزوج أيضا وبهذا يفتخر هذا الزوج الذي أصبح أبا لثلاثة أبناء رفقة زوجة عاشرته لمدة إثنى عشر سنة، مؤكدا أن التنازلات لا تصدر عن زوجته وحدها وإنما هو الآخر يتنازل إذا تعلق الأمر ببعض الأمور التي يراها من حقه، وهذا سر نجاحهما حسب قوله. وشدد هذا الزوج (م. ج) على أن البركة في الحياة الزوجية تكون نتيجة حتمية للتنازلات بين الزوجين بشكل يحترم فيه كل طرف كيان الآخر وعاداته وطباعه. وذكر (م. ج) أنه خلال نصيحته لكل الشباب المقبلين على الزواج الذين يستشيرونه في الأمر يؤكد على أهمية اتفاق الزوجين على الاحترام مهما كانت الظروف، لأن الظروف تتغير وقد تتغير معها المواقف أما الاحترام فإنه يجعل كل واحد يلزم حدوده مهما كانت الظروف وبالتالي لا تتأذى النواة الصلبة للزواج وتبقى بعض المشاكل العابرة مجرد غبار يمكن إزالته بمجرد اعتذار أو خرجة أو غيرها من منظفات أدران المشاكل الزوجية. التنازل قوة أكد الأستاذ عبد الهادي اليماني نائب رئيسة جمعية أم البنين للعناية بالأسرة بالرشيدية، على ترسيخ المبادئ التي من شأنها الحفاظ على التماسك الأسري ومنها التواصل والرحمة والألفة لتحقيق السكينة وهي الغاية الكبرى من بناء الأسرة، كما شدد على أهمية إتقان فن التنازل وإيلائه أهمية قصوى حتى لا تنقلب نتائجه ضد أهدافه. وصرح اليماني ل "التجديد" بأن: "التنازل بين الزوجين بشكل خاص يعرف عدة دلالات ومعاني وكل معنى يؤتي نتيجة معينة، فمن يرى في التنازل ضعفا أو استسلاما فهذا يعاني مشاكل كثيرة جدا، أما من يرى بأن التنازل معلم من معالم قوة الشخصية وصفة من صفات النجاح في الحياة، لابد وأنه يحس بالنتائج والثمرات الإيجابية لتنازلاته". وآثر عبد الهادي اليماني المؤسس للمؤسسة المغربية نماء للتكوين والتدريب بالرشيدية، الحديث عن التنازل في بعده المشرق خاصة بين الزوجين اللذين يعتبران برأيه طرفين متكاملين يعيشان حياتهما الزوجية بصفتها فضاء للتعاون، مفيدا أنه: "في بعض الأحيان لا تتوافق إرادتهما أو مشاعرهما فيضطر أحدهما إلى تغيير موقعه وهذا أفضل من تسمية التنازل، وهذا من شأنه أن يرقى بالعلاقة الزوجية" واعتبر هذا الأمر من صفات الناجحين والأقوياء وليس مذلة أو نزولا عن السقف. ويرى اليماني أن التنازل ضروري للحياة الزوجية لأنه عند اختلاف وجهات النظر لابد لأحد الزوجين أن يتراجع حتى يرى الأمر بشكل واضح من قبيل تغيير الموقع. وعلق اليماني على من يقرن التنازل بالضعف أو الاستسلام بكونه مجانب للواقع إذ لا يقوى على التنازل إلا الأقوياء وكل من يجد ثقة في نفسه وقدراته. ورغم أن التنازل مبعثه القوة إلا أنه إذا استمر من طرف واحد من أطراف العلاقة الزوجية فإنه سيؤدي إلى اختلال التوازن، حسب رأي المستشار عبد الهادي اليماني الذي يرى في ذلك مفتاحا ليتسلل الإحباط إلى نفسية الشخص المتنازل لتتحول تنازلاته إلى ردود أفعال سلبية، ولهذا دعا اليماني كل من يتقن فن التنازل إلى إشراك الطرف الآخر في العملية بشتى الوسائل والطرق مستخدما في ذلك تقنيات التواصل الإيجابي التي يتوفر عليها حتى يخضع التنازل لعملية تبادل الأدوار بين الزوجين ولا يثقل كاهل طرف دون الآخر، وبالتالي يحصل التوازن والطمأنينة لدى الطرفين تليه عملية تقدير من كل طرف للطرف الآخر. وقرن المتحدث نفسه التنازل بالعفو مستنتجا أن الذي يصدر منه العفو يكون متصفا بالقوة بدل الضعف. ودعا اليماني المتزوجين إلى إتقان فن التنازل والتدرب عليه حتى ينشأ الأطفال في جو يسوده التقدير والتقدير المتبادل والاحترام مما يجعلهم يعيشون توازنا نفسيا يساعدهم على نمو سليم يفيدهم ويفيد مجتمعهم. ولابد من التذكير أن فنون التعامل بين الزوجين أصبحت اليوم تلقن للمقبلين على الزواج وعبر وسائل الإعلام ومن قبل مراكز الإرشاد الأسري التي أصبحت تنتشر في مختلف مدن المغرب بخلاف فترات سابقة كانت الثقافة الزوجية تستمد من الأمثال الشعبية التي يجب أن تخضع لغربال يصفي الفاسد منها.