سموت الرسول وتبقى الرسالة (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل. أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الشاكرين(144) وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا. ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها، وسنجزي الشاكرين(145) وكأي من نبي قتل معه ربيون كثير، فما وهنوا في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين(164) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين(147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، والله يحب المحسنين)(148)]آل عمران. لهذه الآية حكايتان شهيرتان. الأولى يوم نزلت في معركة بدر الدامية، حيث شاع خبر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أو قتله. والثانية يوم تأكد خبر وفاته عندما اختاره الله عز وجل إليه. تحكي كتب السيرة والتفسير أن يوم أحد كان يوما أسود في تاريخ الجيل الأول من المسلمين الأولين. يوم انهزموا فيه عندما تعلقت إرادة فريق منهم بالدنيا وعصى الرماة أمر الرسول بالبقاء في أماكنهم المحددة. فكان ما كان من انقلاب الانتصار المحقق في أول المعركة إلى هزيمة محققة في نهايتها. ولايجهل أحد من صغار المسلمين وكبارهم أن حمزة بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم وأسد الله ورسوله لقي حتفه شهيدا في المعركة، بعد أن مثلت به الأيدي الآثمة المشركة شر تمثيل. روى الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة عن ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهويتخشط في دمه فقال له : يا فلان شعرت أن محمدا صلي الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم فنزل( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل). فالرسول صلى الله عليه وسلم مثله مثل الرسل السابقين، كلهم قضوا نحبهم، وكلهم رحلوا إلى ربهم بعد أن أدوا رسالتهم خيرا أداء. فلماذا التعلق بشخصهم؟ ولماذا التولي عما جاءوا به والانقلاب على رسالتهم؟ أليست كلمتهم الأولى والأخيرة هي كلمة التحرير الثابثة الطيبة لا إله إلا الله (أن اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره)؟ التعلق بأشخاص الأنبياء والرسل غير مقبول في دين الله القويم، والانقلاب عليهم كبيرة من الكبائر، لو من ينقلب عن عقبيه فلن يضر الله شيئا) بل لن يضر إلا نفسه، كما أن الثابثين سيعود ثباتهم نفعا وجزءا عليهم لأن الله (سيجزي الشاكرين) يوم أحد هذا الذي شهد ابتلاء عظيما، تكرر مشهده يوم قبض محمد عليه الصلاة والسلام. فلم يعرف الصحابة يوما في حياتهم أسود من ذلك اليوم، ولم يصدق كثير منهم خبر وفاة النبي، حتى أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحدى كل من يروج خبر وفاته إذ أنه رضي الله عنه تحت وطأة الصدمة الشديدة، ظن أنها ليست وفاة، وإنما هي رحلة مؤقتة كتلك التي قام بها موسى كليم الله. وما تلبث أن تنتهي ويعود محمد عليه الصلاة والسلام. غير أن أبا بكر الصديق رضي الله كان أكثر ثباتا وحزما لما أخبرته عائشة رضي الله عنها، فيما رواه البخاري، فأقبل على فرس من مسكنه حتى نزل فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، وتوجه تلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى في ثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت لك فقد متها. وحدث ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدث الناس فقال اجلس ياعمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فأخذ الكلمة وقال: أما بعد، من كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله عز وجل ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) إلى قوله:( سيجزي الله الشاكرين). قال ابن عباس معلقا:فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها. وتضيف الرواية واصفة حال عمر لحظة سماعه الآية من فم أبي بكر رضى الله عنه فتقول فيما قاله سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أنه سمع أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى هويت إلى الأرض. كل النفوس راجعة إلى الله سواء كانت للأنبياء أم للصعاليك. فالموت كتاب مؤجل، وعلى العابر في هذه الدنيا أن يستغل الفرصة في دار الغرور ليفوز في دار القرار. وعليه أن يتحرر من التعلق بالأشخاص والأحداث وأن يعتصم بالأفكار والآيات، كما فعل الربيون الكثيرون لما قاتلوا وقتلوا مع الأنبياء والمرسلين، فلم يتراجعوا ولم يستكينوا، وظلوا متقدمين في الصفوف الأمامية لايعرف الوهن والتعب إليهم سبيلا. وإلى جانب العزم الراسخ والعمل المتواصل الدؤوب كانوا معترفين بالتقصير طالبين العفو والمغفرة من غافر الذنب وقابل التوب، رافعين آكف الضراعة إليه أن يربط على القلوب ويثبت الأقام. لم يكونوا ينتظرون الانتصار والانتشار في حياتهم ولا مع رسلهم وأنبيائهم، بل كان همهم الأول والأخير أن يتوفاهم الله محسنين وقد رضي عنهم ( فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، والله يحب المحسنين). وربما جمع الله لمن بقي بعدهم النصر والظفر والعاقبة الحسنة. حسن صابر