قضية للمناقشة: حكم زيادة الثمن في بيع التقسيط - الدكتور عبد العظيم مجيب بيع التقسيط صيغة حديثة لمعاملة قديمة في أصلها جديدة في أسلوبها، فهو نوع من البيوع المؤجلة يتميز بتقسيط الثمن مقابل التأخير في الأداء. ويشبه بيع التقسيط بيع الأجل في أن كلا منهما يعجل فيه المبيع ويؤجل فيه الثمن، ويختلفان في أن الأول يتميز بالتأخير في الأجل والثاني بالتأخير في الأجل والتقسيط في الأداء. أما على مستوى العملي فقد انتشر هذا النوع من البيوع انتشارا واسعا، وعرف تطورا كبيرا في وقتنا الحاضر على مستوى الأفراد والجماعات في عديد من المجالات، وفي مختلف السلع الغذائية والتجهيزات، وساعد على تنشيط التجارة بين المؤسسات المالية والمحلات التجارية وعملائها داخل الدولة وخارجها، وغدا من الطرق الاستثمارية الأساسية التي تعتمد عليها المصاريف الإسلامية خاصة، حيث تتعرف على احتياجات عملائها الإنتاجية والاستهلاكية، وتشتريها لحسابها الخاص ثم تبيعها إلى عملائها بالتقسيط مقابل ربح تحصل عليه إضافة إلى القدر الزائد في الثمن مقابل التقسيط في الأداء. وقد كثرت الاستفسارات عن حكم زيادة الثمن في بيع التقسيط، ويحاول هذا البحث مناقشة هذه القضية من أجل تبين الشبه فيه، وننشر اليوم الحلقة الأولى، فيما الحلقة الثانية والهوامش ننشرها في الحلقة المقبلة من ركن " فاسألوا أهل الذكر". تعريف بيع التقسيط التقسيط في اللغة: التفريق، يقال قسط الشيء بمعنى فرقه وجعله أجزاء (1) وقسط الدين جعله أجزاء معلومة تؤدى في أوقات. واصطلاحا: دفع الثمن مفرقا إلى أقساط محددة في أوقات معينة، على شكل دفعات دورية شهرية أو سنوية. وصورته: أن يحدد البائع للسلعة ثمنان: سعر لمن يدفع حالا، وسعر أعلى منه لمن يدفع على مراحل، فيختار المشتري الأداء بالتقسيط. ويرى بعض الباحثين أن مفهوم هذا البيع بصفته المعهودة اليوم لم يرد في كتب الفقهاء المتقدمين، لأن البيع عندهم إما أن يكون حالا أو مؤجلا يتم تسليمه في وقت لاحق.. ثم تسديد الثمن جملة على دفعات متعددة (2). يقول "محمد عطا السيد" عضو المجمع الفقهي: إنه لم يعثر على بيان واضح في مسألة تقسيط الثمن عند الفقهاء المتقدمين إلا ما ورد عند ابن عابدين قوله: (ومنها: أي جهالة الأجل اشتراطه أن يعطيه الثمن على التفاريق أو كل أسبوع البعض) (3) ويعلق الباحث على هذه العبارة قائلا: وهي عبارة من العبارات النادرة في هذه المسألة (4). ولكنه عندما حدد صور البيع المعروفة ذكر ما يفيد حقيقة التقسيط فقوله: على دفعات متعددة: هو معنى البيع بالتقسيط، بل صرح بلفظ التقسيط ابن الحاج من الفقهاء المالكية. فقد ذكر الونشريسي مسألة بعنوان: من اشترى سلعة بثمن مقسط إلى شهور. فأجاب: سئل ابن الحاج عمن باع سلعة بدنانير على أن يعطيه ربعه كل شهر (5) حكم البيع بالتقسيط والزيادة في الثمن والذي يهمنا في هذا المبحث هو حكم الزيادة في الثمن بسبب التقسيط. ولكن قبل أن نبين حكم هذه الزيادة أرى أن أذكر حكم العقد أولا، ثم حكم الزيادة المالية المترتبة عنه: يرى جمهور الفقهاء المعاصرين (6) مشروعية البيع بالتقسيط وإباحة ثمنه إذا وقع البت في مجلس العقد، وتم تحديد الأقساط وتعيين الأجل. وبه قال الدكتور الشرباصي، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية الأسبق، والشيخ عطية صقر، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا، والشيخ عبد الرحمان تاج، والشيخ القرضاوي وغيرهم من الباحثين. وهذه الأحكام الفردية زكتها القرارات الجماعية الصادرة عن المجامع الفقهية. فقد ورد إلى الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية السؤال التالي: ذهبت إلى إحدى شركات السيارات التي تبيع بالتقسيط، واشتريت منها سيارة أفادوني أنها تقدر ب50500 ريال وتقسيط 54131 أي بزيادة %14 على المتبقى من المبلغ. فكان جواب اللجنة: إذا اتفق المشتري لأجل بأن المبلغ 54131 كله ثمن السيارة يدفع أقساطا أو يدفع بعضه عاجلا وبعضه آجلا فالبيع جائز شرعا (7) ولو كان الثمن المؤجل أكثر من الثمن نقدا. وأكد هذا القرار مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السادس المنعقد بجدة في الفترة ما بين 17 23 شعبان 1416 الموافق 14 20 مارس 1990 فقد قرر ما يلي: 1 تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال، كما يجوز ذكر ثمن البيع نقدا وثمنه بالأقساط لمدة معلومة (8) الأدلة والتعليلات استدل القائلون بالجواز بالسنة، وعللوا رأيهم بالإجماع والقياس، والمصلحة، والإباحة الأصلية، إضافة إلى أدلة البيوع عامة وأدلة بيوع الأجل خاصة. 1 أما السنة: أ - فقد تبث أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل) رواه الشيخان (9)، ووجه الدلالة أن في الحديث دليل على مشروعية البيع بالأجل بزيادة، وبيع التقسيط ماهو إلا بيع أجل بزيادة في الثمن. ب قوله صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم) رواه الجماعة (10) ج لقصة بريرة: (أنها اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق كل عام أوقية) رواه البخاري ومسلم (11). وجه الدلالة: أن هذا هو بيع التقسيط، ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم بل أقره، ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلا لما تباع به السلعة نقدا أو زائدا بسبب الأجل (12). 2 - وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على التعامل بهذه الصورة، ولم ينكر عليهم أحد فكان ذلك كالإجماع منهم على جوازها (13) 3 قياس بيع التقسيط على عقد السلم، بجامع الحاجة في كل منهما، ويشبه أحدهما الآخر في كون أحد العوضين الثمن أو السلعة معجلا والآخر مؤجلا، كما أن للسلعة في السلم سعرين: سعر عند التعاقد وسعر عند التسليم، فقد ينقص الثمن وقت التسليم، والسلم مشروع فكذلك بيع التقسيط (14) 4 إن هذه المعاملة ينتفع بها كل من البائع والمشتري، فينتفع البائع بالزيادة في الثمن والمشتري بإمهاله في الأداء، وهذه مصلحة بينة للطرفين. 5 الأصل في الشريعة حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه (15) ولا يوجد دليل يمنع ذلك. 6 المخاطرة: قد يزاد في الثمن المؤجل أو المقسط لأسباب أخرى مثل مخاطرة التلف أو خوفا من التخلف عن الأداء أو هلاك الدين أو تقلبات الأستعار وارتفاعها بالنسبة للبائع أو هبوطها بالنسبة للمشتري، ولهذا نص الفقهاء على أن للزمن حصة من الثمن. 7 الخدمة أو العمل: قد يزاد الثمن لأجل الخدمة، فالدين يحتاج إلى إثبات في سجلات ومحاسبة ومتابعة ومطالبة (16) وهذا يتطلب الزيادة في الثمن مقابل هذه الأعمال. نماذج تطبيقية مختلفة الأحكام إن الحكم بجواز بيع التقسيط ومشروعية الزيادة في ثمنه ليس على إطلاقه، بل يختلف باختلاف صوره، فمنها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع شرعا، وفيما يلي بعض التطبيقات رأيت من المناسب عرضها لكثرة التعامل بها، وحتى لا يؤخذ الحكم على علاته، وحتى يمكن القياس عليها في الإباحة أو التحريم، وتتضح الصورة أكثر لمن يريد معرفة الحكم الشرعي في الموضوع: أ الزيادة في الثمن مقابل التأخير: من الصور الممنوعة ربط الفائدة بالتأخير في الأداء، وعدم الجزم بثمن معين وقت العقد: فمثلا إذا قال البائع هذه السلعة بألف درهم حالا وبألف وعشرة لشهر وبألف وعشرين لشهرين تكون العملية جائزة إذا وقع الاتفاق على صورة محددة، واختار المشتري إحداها في مجلس العقد، أما إذا لم يقع الفصل في سعر معين وبقي الأمر معلقا فهذا غير جائز. قبل الأجل أو بعده، لأن حقيقته: >أنظرني أزدك< وهذا من ربا الجاهلية الذي حرمه القرآن. (17). والحكم بالمنع أقرته لجنة الإفتاء بالسعودية أيضا. ويؤكد هذا الحكم والتعليل د.رفيق المصري (18) بأن التأخر في سداد الأقساط لا نعلم أحدا من الفقهاء السابقين أجاز فيه تغريم المتأخر بغرامة أو معاقبته بعقوبة مالية، غير أن بعض العلماء المعاصرين ذهب إلى التفريق بين المدين العاجز والمدين الغني المماطل. ب فصل الثمن عن الفائدة إذا ذكر البائع للسلعة أثمان مختلفة، وحدد ثمن كل مدة كأن يقول أبيعه نقدا بثمانية وإلى أجل بعشرة فهذه صورة مباحة. ولكن هل يجوز أن يذكر البائع ثمن السلعة ثم يذكر فوائد مدة التقسيط فيقول مثلا: ثمن السيارة خمسون ألفا يدفع عند التعاقد خمسة آلاف ويقسط الباقي على عشرة أشهر بزيادة خمسة في المائة، حيث يذكر الفوائد مفصولة عن الثمن كما يلاحظ في بعض الوثائق المالية، فنجد عبارة "فوائد التأخير كذا وكذا"؟ اختلف العلماء المعاصرين في هذه المسألة: ف"السالوس" يرى حرمتها لأنه يعني ربط الزيادة بالدين ومدته، وهي ربا (19). أما الشيخ "عبد الوهاب خلاف" فإنه يرى إباحة ذلك. وقد جاء بصورة واقعية طبقها هو نفسه وسارت عليها وزارة الأوقاف المصرية. يقول "خلاف": إذا اشترى إنسان ألفا متر من الأرض للبناء مثلا بألفي جنيه على أن يدفع في الحال ربع ثمنها، والباقي يدفعه أقساطا سنوية لمدة خمسة عشرة سنة كل قسط مائة جنيه، على أن يدفع المائة مائة وخمسة، بعض المسلمين قالوا هذا حرام، لأن هذه الخمسة فائدة وهي ربا محرم، وأنا أخالف في هذا (20) وأقرر أن هذه الخمسة ليست ربا الفضل الوارد بالسنة، وإنما هي حصة الأجل في الثمن، وهي الفرق بين سعر المبيع إذا بيع بثمن حال، وسعره إذا بيع بثمن مؤجل، لأن الفقهاء قرروا أن زيادة السعر لأجل الزيادة جائزة، وأن للأجل حصة من الثمن. فحقيقة الأمر يقول خلاف أن البائع جعل للمتر ثمنا لمن يدفع الثمن كله حالا وثمنا أعلى لمن يدفع بعضه حالا وبعضه على أقساط، وهذا الفرق بين الثمنين هو الذي زاده في كل قسط بقدر خمس جنيهات، ولو سمي هذا حصة الأجل من الثمن بدل الفائدة ما اشتبه الأمر فيه. ووزارة الأوقاف المصرية تبيع الأرض على هذه الصورة وسمتها فائدة، ولما اعترض بعض المسلمين سمتها بدل ريع وأخيرا صرحت بالحقيقة، وجعلت وقت المزايدة سعرين: سعر لمن يدفع الثمن كله حالا، وسعر لمن يدفع بعض الثمن في الحال وباقيه على آجال والفرق يساوي مجموع ما كان يضاف على الأقساط. ويعلل الشيخ "عبد الوهاب خلاف" رأيه بأن الشريعة الإسلامية شريعة معان وحقائق لا شريعة ألفاظ وأسماء، تحرم الشيء إذا سمي باسم وتبيحه إذا سمي باسم آخر (21) ج إدخال طرف ثالث بين البائع والمشتري في عملية التقسيط انتشر في وقتنا أسلوب تجاري يتدخل فيه البنك كطرف ثالث وسيط بين البائع والمشتري، ليس بصفته بائعا ولا مشتريا ولا ممولا، وإنما بصفته مقرضا حيث يذهب الشخص إلى المركز التجاري، يريد أن يشتري بضاعة بالتقسيط، فيحيل البائع المشتري على البنك ويدفع له وثائقه، فيأخذ التاجر ثمن بضاعته ويترك البائع من البنك ليأخذ منه الثمن ويعد عليه الفوائد، فيصبح المشتري مدينا للبنك بفوائد ربوية واجبة عليه بسبب القرض الذي أخذه من البنك، وليس من أجل السلعة التي أخذها بالتقسيط، وقد لا يعرف المشتري الصورة الحقيقية لهذا التعامل، فيعتقد أنه أخذ سلعة زائدة في الثمن مقابل التأخير في الأجل، والحقيقة أنه أخذ قرضا من البنك مقابل فائدة يؤديها دون أن يشعر. ولهذا وضع الفقهاء لهذه المسألة ضابطا يميز الحلال من الحرام، فإن كان البنك هو البائع نفسه كانت العملية جائزة، بشرط ثبوت الملكية للبنك وضمانه، وإن كان البائع مؤسسة أخرى والبنك مقرضا للمشتري كانت العملية ممنوعة. وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الباري الزمزمي أحد الدعاة المسلمين في المغرب، فقد وجه إليه سؤال يقول صاحبه: ما حكم الشرع في أن يقوم البنك في تمويل بعض المشتريات كأثات المنزل وأجهزته، أو شراء مسكن، مع العلم أني لا آخذ النقود ولكن السلعة فقط، وأدفع الثمن والزيادة معا باقتطاعات شهرية؟ فكان الجواب: هذه المعاملة يتعلق حكمها الشرعي بصيغة العقد بين البنك وزبونه، فإذا نص العقد أن البنك باع زبونه مسكنا أو سيارة مثلا، فالمعاملة سليمة لكونها تجارية، والزيادة هي ربح هذه العملية، لأن البنك اشترى السلعة وباعها إلى زبونه بالتقسيط، أما إذا نص في العقد على أن العملية قرض فالمعاملة ربا محرم (22) وأقول: إن الأمر لا يتعلق بالصيغة فقط بل بالحقيقة أيضا، فإن كان البنك اشترى السلعة فعلا وتمت حيازتها وتملكها للبنك وأصبح ضامنا لها كانت العملية مباحة والأرباح حلالا، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن البنك يكون قد دفع إلى العميل قرضا وأخذ الدين وفائدته، والفائدة محرمة شرعا لأنها ربا. إعداد خليل بن الشهبة