فضاء الحوار: تساؤلات القراء يجيب عنها الدكتور لطفي الحضري-أخصائي في علم النفس والأخت أم إشراق الشماعية مهتمة بشؤون الأسرة ابنتك سليمة، و لا تعاني من أي مرض نفسي رد إلى السيدة فاطمة من الرباط التي عنونت مشكلتها ب"طفلتي تصر على أن تكون مثل صديقاتها، وزوجي يرفض" عدد (459) من خلال رسالتك تطرحين مشكلتين تصبان في قضية واحدة، وهو خوفك من أن تكون ابنتك تعاني من مرض نفسي. رجوعا الى العناصر الواردة في رسالتك ، أقول لك إن ابنتك لا تعاني من أي مرض نفسي. و سأحاول إن شاء الله تفسير سلوك ابنتك من الناحية النفسية. 1. ابنتي تريد أن تلبس مثل صديقاتها : تتكون البنية النفسية من عناصر مترتبة و متداخلة بينها، و هو ما اصطلح عليه في علم النفس "بالآليات الدفاعية" و التي تفوق 20 آلية، لن أدخل في التفاصيل ، بل سأركز على الآلية التي تهمنا في هذا الموضوع و هي آلية التقمص، و هي من أهم الآليات في نمو شخصية الطفل بل هي ضرورية، لا يستطيع هذا الأخير بناء شخصية سوية بدون استعمال هذه الآلية. فمند ولادة الطفل و هو يتعلم انطلاقا من استعماله آلية التقمص، لشخصية الأبوين، فكلما كانت طاقة الطفل مؤهلة لاستعمال هذه الآلية كلما كان بناء شخصيته أسرع و أقوى. موضوع التقمص لأشياء إيجابية وأخرى سلبية تبقى من مسؤولية الآباء، و تبلغ ذروة هذا التقمص ما بين سن 6 و 12 ، رغم بقائها طيلة حياة الإنسان. فبناء شخصية الطفل مرتبط بالإطار العائلي و الإجتماعي، و هذا هو الذي يكون "الشخصية القاعدية" للطفل و هي التي تكون المستقبل النفسي. كما أن رغبة ابنتك في تقليد صديقاتها يدخل في إطار ما يسمى في علم النفس الاجتماعي ب "الالتحاق بالجماعة"، لأن تكوين جماعة من الصديقات يرتكز على قبول قواعد هذه الجماعة، و إلا أصبح الفرد مرفوضا من طرفها. هذا لا يعني أن ابنتك تتبع شبرا بشبر سلوكيات الجماعة، كل جماعة ترتكز على ما نسميه بالقواعد المركزية central noyau le،و القواعد الجانبية perepheriques regles les، فباستطاعة ابنتك مغالبة القواعد الجانبية دون أن تحس بأنها مهددة بالطرد، لأني لا اعتقد أن يكون اللباس في هذه الجماعة من القواعد المركزية، قد يصبح هذا في ما بعد، و اعتقد أن زوجك يخاف مستقبلا من هذا المنقلب. يجب أن لا تدخلي في صراع عائلي لأن هذا يكون دائما في مصلحة الأبناء الذين يستفيدون من هذا الصراع ليفرضوا قواعدهم، بل يجب بناء مفهوم موحد و قاعدة أساسية مع زوجك تبنى عليها القواعد الجانبية لأبنائكم. كما يمكن أن تشرحي لابنتك بحضور زوجك موقف العائلة من هذا النوع من اللباس، وكذلك الموقف الشرعي. في العاشرة يكون الطفل قادرا على فهم بعض التناقضات داخل المجتمع، و قابلا للتعامل معها، و إن كان هذا الفهم لا يكون كليا قبل سن 13-14 سنة. أهم ما في الأمر أن يكون موقفك و موقف زوجك سيان، و أن يكون التناقض في الموقف تناقض الظروف و الملابسات الاجتماعية، و ليس تناقض الأب و الأم. 2. ابنتي تعبث بأدوات الزينة و تضع أحمر الشفاه و تلبس لباسي : إن رجعت و تذكرت بعض سلوكيات ابنتك ستذكرين أنها و مند 15 شهرا (كل الاطفال) أول ما يبدؤون به هو محاولة ارتداء أحذية الكبار، هذا أول تعبير على فرحتهم بالمشي الذي يكون فرحة للآباء أيضا. فعملية التقليد عملية بنيوية كما ذكرت آنفا، واستعمال أحمر الشفاه تمر به أغلب البنات، و هو محاولة لتقليد الامهات. فهي عملية نفسية لإرضاء الأب، لأن هذا الأخير يرضى حينما تتزين زوجته، و لكون الأطفال يعتقدون أنهم كلما كبروا كلما حصلوا على رضى الأبوين فهم مصرون على أن يكبروا بأي وسيلة و منها التقليد في كل شيء. و في الختام أؤكد بأن ابنتك سليمة و الحمد لله، و أنها لا تعاني من أي مرض نفسي. انضبطي للمنهج الرسالي في التربية، و اشركي زوجك في معالجة المشكل رد على رسالة الأم المعذبة التي طرحت مشكلتها بالعدد (483) تحت عنوان: "ابني يعاقبني.. وأنا أنهار؟" دعيني أختي السائة أقول لك أنه بعدما فرغت من قراءة مشكلتك شعرت بك وأحسست بكل ما تعانيه، وبالظرف الحرج الذي تمرين به، وكم تمنيت لو تطوى المسافات وتجديني بجانبك أحاول جاهدة الوقوف معك في محنتك هذه، لكم تمنيت لو كنت جارتي أو إحدى صديقاتي لأنفس عنك ما تمرين به من كرب، لكن لا عليك أختي السائلة، سأحاول جاهدة بكل ما أوتيت من قوة أن أقف بجانبك لتتمكني من تجاوز هذه العقبة لعل الله يفرج عنا جميعا. أختي المعذبة؟ وأنا أقرأ مشكلتك مع ابنك البالغ من العمر ثماني سنوات خلتك أما واعية ومقرة بجميع الأخطاء التربوية المرتكبة في حق ابنك، فمجرد الاعتراف والإقرار، فأنت تطرحين عاملا مساعدا في إيجاد حل لهذا المشكل الناجم عن سوء فهمك وتقديرك لخطورة الضرب في التربية، فأنت لم تحاولي تبرير أخطائك، وإنما وعيت بخطورة المشكلة التي تكاد تهدد مستقبل حياة ابنك، وهذا ما أعتبره بداية تبلور وعي ذاتي، انطلاقا من فهم الظاهرة وتحليل أسبابها ونتائجها بغية إيجاد حلول عملية وواقعية لنأخذها عبرة لنا ولغيرنا. وانطلاقا من فحوى الرسالة التي أشم منها رائحة الحسرة والندم على قلة وعيك وقلة بضاعتك في التربية لأسباب ذكرت بعضا منها في رسالتك وقفت على مجموعة من المسلمات وهي كالتالي: 1 الوعي شرط أساسي في نجاح الأم والأب كذلك في دورها التربوي وإن لم يرتبط أي الوعي بالمستوى الدراسي أو الثقافي وإنما يتحقق انطلاقا من تراكمات معرفية وتجريبية. 2 أنت كأم لست سوى نتاج لتربية تقليدية سلطوية، وأنت الآن تعيدين صياغتها بطريقة أكثر تعقيدا "وفاقد الشيء لا يعطيه" فمن فقد الحنان في مرحلة الطفولة، فلا يمكن أن يعطي إلا الكراهية. 3 لا توجد وصفة جاهزة لتربية الأطفال وإنما كل طفل يتجاوب مع الوسيلة التربوية حسب مرحلته العمرية وحسب نفسيته، وكثيرا ما نتجاهل أصولنا الشرعية في التربية والتي أكدها العلم الحديث. 4 اعلمي أن الضرب كوسيلة تربوية أصبحت متجاوزة في عصرنا الحالي، إذ لا يحل المشاكل ولا يساهم في تربية الأطفال وإنما يعمق المشاكل، ويساهم في إبراز مجموعة من الآفات التربوية والأخلاقية التي تظل مصاحبة له في جميع مراحله العمرية كالكذب والعنف إن لم نتداركها بالمعالجة التربوية والنفسية والاجتماعية الفورية، وإلا سنكون قد عملنا على إنتاج شخصية أكثر تعقيدا لا تعرف سوى العزف على أوتار العنف والمنع والاستفزاز. وهذا ما أقره فرويد بمقولته الشهيرة "الطفل أب الرجل" إذ تشكل الخمس سنوات الأولى المحدد الأساسي لبروز معالم شخصيته. 5 طبيعي أختي السائلة ألا يشعر ابنك نحوك بأية عاطفة لأنك لم تكوني بالنسبة له منبعا للحنان والعطف، وإنما مصدرا لكل قسوة، وتسلط فتحولت بتصرفاتك غير الواعية من أم وديعة رحيمة إلى أم "شبح" يفضل أن تختفي من أمامه لأنك تذكريه بالجانب الأسود في حياته فيبحث عن بديل لك عند الأب والجدة. 6 لقد فهمت من رسالتك بأن طفلك هو ابنك الأول وعادة الطفل الأول أن يلقى من العناية والاهتمام خاصة من طرف الأم ما لا يلقاه إخوته الآخرين، فإذا بك تعالجي أمورك كلها بالضرب ولا شيء آخر سوى الضرب كأني بك تمتثلين للمقولة المنتشرة قديما "العصا لمن عصى" متجاهلة أنه بفعلك هذا تخرجين فلذة كبدك من صفة "الآدمية" إلى صفة "الحيوانية"، وبالتالي أصبحت جلادة في صفة الأمومة المزيفة. 7 لا توجد وسيلة واحدة في التربية وإنما هناك وسائل عديدة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: التربية بالموعظة، بالقصة وبالحوار وبالقدوة وبالثواب والعقاب إلا أن العقوبة لا تأخذ صفة الضرب وإنما تتخذ أشكالا متنوعة كالمنع من الحنان والعطف ومن مصروفه الخاص أو كل ما يرغب في امتلاكه وبعدما نستنفذ جميع الوسائل نلجأ إلى الضرب غير المبرح مع الإيمان بعدم نجاعته. بعض الحلول والمقترحات العملية: اطمئني أختي المعذبة بمجرد طرح المشكل واعترافك بالمظاهر السلبية التي نجمت عن سوء فهمك وتقديرك لخطورة الضرب في التربية، فقد قمت بما لا يدع مجالا للشك بتفهم الموقف وعزمك الأكيد على تجاوز جميع السلبيات الناجمة عن التربية بالعقوبة وهذا لوحده يضعك أمام نصف الحل، فعليك إذن أن تجتهدي في الارتقاء بمستواك المعرفي والتجريبي، ولذا سأحاول أن أضع بين يديك بعض الحلول والمقترحات العملية علها تساعدك على تجاوز المرحلة الصعبة التي تمرين بها، ولا داعي للقلق فمازال الوقت أمامك. 1 التربية فن وعلم، أقول فن لأنها تتطلب استخدام حدس الأم وحسن تقديرها للموقف بناء على المعلومات النظرية التي تقوم على أساس من معطيات أصول التربية كما حددها الشرع الحنيف وكما أقرها علم النفس ومبادئ علم الاجتماع. 2 جددي علاقتك بابنك وحاولي أن تردي الاعتبار لهذه العلاقة مع تظافر مجهودات الجميع "الأسرة المدرسة المجتمع". 3 أوقفي على الفور أسلوب العقاب، وإن كان ولابد، لا تعاقبي وأنت غاضبة حتى لا تسقطي في حبال الانتقام النفسي وهذا ما يعرف في علم النفس بعملية الإسقاط. كما أن العقاب البدني "حلال مكروه"، وهذا ما أكده الدكتور فاخر عاقل في كتابه القيم معالم التربية. 4 اقتني لابنك هدية كان يتطلع لامتلاكها وذكريه بأنها نتيجة تحسن سلوكه ومعاملاته مع أفراد الأسرة. 5 اجتهدي في تطبيق الأساليب الأخرى في التربية والتي سبق ذكرها وفق ما تسمح به الحالة المعروضة أمامك. 6 اهتمي بقراءة كل ما يهم شؤون الأسرة وتربية الأبناء على وجه الخصوص وسأضع بين يديك بعض الكتب للاستئناس. أصول التربية الإسلامية في البيت والمدرسة والمجتمع لعبد الرحمن النحلاوي كيف نربي أبناءنا لمحمود مهدي الإستانبولي معالم التربية للدكتور فاخر عاقل تربية الأولاد لعبد الله ناصح علوان عواطف الطفل للدكتور مبارك ربيع سلسلة علم نفس الطفل لمحمد أحمد النابلسي 7 انضبطي للمنهج الرسالي في التربية والذي حدده الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الشريف حيث يضع حدودا لتأديب الأطفال بقوله: >لاعبوهم سبعا وأدبوهم سبعا، وصاحبوهم سبعا< وقد أخطأت في تطبيق هذا المنهج في التربية فعمدت إلى تأديب ابنك في مرحلة الملاعبة وقد حدد الرسول الأكرم سبع سنوات لكل مرحلة، وهذا ما لم تلتزمي له. 8 استغلي صفة الصدق التي يتحلى بها الطفل دون غيره وأشركيه في اختبار الوسيلة التي يستحق أن يعاقب بها وبذلك تكوني قد أشركته في طريقة تأذيب نفسه وبالتالي تتفادي ظلمه، والظلم ظلمات يوم القيامة. 9 اجتهدي في البحث عن صديقات واعيات نجحن في تربية أبنائهن واتخذيهن قدوة لك، فأنت مازلت في بداية الطريق. 01 ألحقي ابنك إلى أقرب جمعية تهتم بشؤون الأطفال حتي ينمي قدراته المعرفية والحوارية والنفسية لأن الفضاء الجمعوي يتيح للطفل أوراشا يعجز البيت عن تلبيتها وبالتالي يتحرر من "سجن البيت" إلى فضاء أكثر رحابة، مما يساعده كذلك على تجاوز ظاهرة التلعثم أو ما يعرف بالثأثأة. 11 اجعلي مسافة واسعة للحوار بينكما ولا تتكلمي مع ابنك إلا وأنت مبتسمة تتيحين له الفرصة للبوح بكل ما يخبئه في قلبه. 21 اشركي زوجك في معالجة المشكل باعتباره المسؤول الثاني في التربية، فأدوار الوالدين تتكامل في التربية، إلا أن دور الأب يبقى حاضرا في الفترة العمرية الممتدة من سبع سنوات فما فوق، لذا فهو يتحمل معك نفس التبعات، وعليه أن يسارع لتحسين صورتك أمام ابنك كأن لا يخطئك أمامه، وبأن يفهمه بأن الضرب لا ينم بأي حال عن الكراهية بقدر ما هو نابع عن حب صادق. وحبذا لو تجعلا علاقتكما أكثر حميمية، وذلك بمحاولة إشراك طفلكما في نقاشات مشاريع العائلة المستقبلية. 31 اجعلي يوم عطلة الأسبوع محطة للمحاسبة الصريحة، وليعبر كل واحد منكما عن مآخذاته اتجاه الآخر ولا ضير أن تعترفي بأخطائك اتجاه ابنك طالبة منه المعذرة وستلاحظين مع مرور الوقت العجب العجاب، وبالتالي ستكوني قد ساهمت في إصلاح ابنك عن طريق التربية بالقدوة، شريطة أن يتم ذلك في جو من الحوار الدافئ المفعم بالود والسكينة والرحمة. 41 تسلحي بالصبر والدعاء الصادق ليوفقك الله حتى تتجاوزي هذا الظرف الصعب، وأن يصلح لك ابنك (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا). وفي الأخير أسأل الله تعالى أن أكون قد ساهمت ولو بعض الشيء للوقوف معك في محنتك العائلية آملة من الله أن يبقى هذا المنبر بحق جسرا للتواصل بيننا. مهتمة بشؤون الأسرة: أم إشراق الشماعية