كشفت نتائج اقتراع 27 شتنبر 2002 عن تحول حزب العدالة والتنمية إلى حزب وازن في الحياة السياسية الوطنية، ارتفع معها مستوى تأثيره ودرجة فعله في المشهد السياسي، وهي وضعية جديدة، أفرزت تحديات وإشكالات تحتاج لمعالجة دقيقة وشاملة، لا سيما ما ارتبط منها بتحليل دلالات الفوز المشرف للحزب، ومواقفه إزاء الدخول البرلماني، والمشاركة في الحكومة، وكذا الأولويات البرنامجية له، وانعكاس ذلك على البنية الذاتية للحزب. دلالات تقدم حزب العدالة والتنمية تعرض احتلال حزب العدالة والتنمية للمرتبة الثالثة في الخريطة السياسية إلى تأويلات وتفسيرات متعددة ومتناقضة، أبرزها تضخيم هذه الوضعية الجديدة، وتقديم الحزب على أنه حزب كبير أغلبي، والحاصل أن مثل هذا التوصيف إما غرضه التخويف من تقدم الحزب وإضعاف فاعليته الانفتاحية، أو ناتج عن نرجسية ذاتية، تغالي في قراءة نتائج الحزب، ذلك أننا في العمق لم نتجاوز عتبة 13% من الوجود النيابي، أي أننا حزب متوسط، تحسنت وضعيته النيابية بشكل دال بالمقارنة مع انتخابات 1997، لكن لا ينبغي إغفال التزوير الفاحش الذي تعرضنا له آنذاك، مما أفقدنا ما يناهز العشرة مقاعد، هذا من جهة، من جهة أخرى، لا ينبغي إغفال أن المؤسسة التشريعية تتقاسمها غرفتان، يتوازيان في درجة التأثير على القرار السياسي، ولئن تحولنا إلى القوة الثالثة في مجلس النواب، فإن وجودنا الموازي بمجلس المستشارين ضعيف إلى حد كبير. وبخصوص تفسير أسباب تقدم الحزب في مجلس النواب فيمكن القول أنه يحتاج ثلاث عناصر أساسية: من ناحية أولى، نجد تميز الحزب بالتركيز على المرجعية الإسلامية، ليس فقط في خطاباته العامة، بل في شخص مواقف عملية ملموسة، برز فيها واضحا تجنده لصالح قضايا الهوية الإسلامية بالبلاد، وعدم تساهله أو تردده في الدفاع عنها، مما أكسبه مصداقية قوية عند عموم الفئات سواء المرتبطة بالمشروع الإسلامي الحركي، أو الفئات التقليدية والمحافظة. ومن ناحية ثانية، كان لطبيعة السلوك الملتزم والمتدين الصادر عن عموم أبناء الحزب دور أساسي هو الآخر في رفع رصيد الثقة الشعبي لنا، وساهمت تجربة السنوات الخمس الماضية للبرلمان السابق في ذلك بشكل مقدر فنوابنا البرلمانيون بقوا قريبين من مجتمعهم، ولم تتغير أحوالهم المعيشية والمادية بل إنها تدهورت عند بعضهم، كما وجد فينا الشعب المغربي فئة سياسية مختلفة عن غيرها، ذلك أن الطبقة السياسية المغربية أصيبت بعدد من الأمراض، جعلتها في نظر العديدين طبقة متكبرة ومتعالية ومتعالمة، ومنعزلة وانتهازية يغلب عليها الطابع الفرنسي، مما انعكس بشكل بالغ على ثقة المواطنين في العمليات الانتخابية والأحزاب الموجودة. ومن ناحية ثالثة، يمكن القول أن الحزب استفاد جزئيا من بعض الأخطاء الحكومية، التي ارتبطت بقضايا الخطة المشؤومة حول المرأة، وقانون السلفات الصغرى، والتطبيع مع العدو الصهيوني، وتفاقم البطالة، وهي أخطاء لم ترق إلى جعل السلوك الانتخابي للمواطن يتبنى خيار التصويت العقابي، فالاتحاد الاشتراكي بقي في المقدمة، ولم يتغير ولاء قاعدته الانتخابية، ولهذا يصعب القول بأن الحزب حاز ثمرات التصويت العقابي. وهناك عامل رابع، تطرحه بعض التحليلات، ويتمثل في الإحالة على أحداث 11 شتنبر كعامل أثر على السلوك التصويتي للناخب في اتجاه حزب العدالة والتنمية، والواقع أن الحزب تعرض لحملات مضادة بسبب مواقفه من تلك الأحداث هذا من جهة، ومن جهة أخرى، إن القول بمثل هذا التفسير فيه جهل بطبيعة المجتمع المغربي والتي تختلف عن المجتمعات المشرقية بشكل كبير. الدخول البرلماني يرتبط موضوع الحكومة المقبلة بالدخول البرلماني، والذي لا يفصلنا عنه سوى أقل من عشرة أيام، وسيكشف عملية الحسم في رئاسة مجلس النواب من جهة، والتركيبة التي سيدخل بها كل فريق أو مجموعة نيابية من جهة أخرى، عن التحالفات الممكنة في العمل الحكومي. وبخصوص الرئاسة، نعتبر أن هناك تقاليد برلمانية ستحتم أن تؤول الرئاسة لأحد الحزبين، أي الاتحاد الاشتراكي أو حزب الاستقلال، ولا يخفى على أحد أن المواقف السيئة للاتحاد الاشتراكي إزاء قضايا الهوية والحركة الإسلامية تجعلنا نميل لمساندة حزب الاستقلال أكثر منه، كما أننا نتطلع إلى مواصلة وتطوير مكتسبات تجربتنا النيابية السابقة واحتلال دور طليعي في توجيه العمل البرلماني، وترشيده وتفعيل المؤسسة التشريعية واستعادة مكانتها إزاء السلطة الحكومية، فضلا عن الدفع أكثر في تخليق العمل البرلماني وإحلال صرامة أكبر في احترام القوانين المنظمة لعمل مجلس النواب. الحكومة المقبلة يستقطب موضوع مشاركة الحزب في الحكومة نقاشا قويا داخل مؤسسات الحزب وأجهزته، وتتوزع الآراء بين توجهين، توجه يطرح مسألة المشاركة والإقدام على خوض التجربة الحكومية، وتوجه يتبنى موقف عدم المشاركة، وفي كلا الموقفين إيجابيات وسلبيات، كما تتداخل فيها حسابات متعددة ومعقدة، بدءا من الحسابات الخارجية والدولية، وانتهاء بالحسابات الذاتية، مرورا بحسابات التحالفات والتوازنات السياسية الداخلية والوطنية، وسنعمل على التعرض لمختلف الإشكالات المرتبطة بهذه العناصر من أجل بسط حيثيات الموقف العام للحزب إزاء هذا الموضوع. يغلب على الرأي العام داخل الحزب موقف عدم المشاركة وخصوصا إذا كان الاتحاد الاشتراكي على رأس الحكومة، حيث لا يقبل الحزب أىة مشاركة في إطار رئاسته، لامتيازات ترتبط باختياراته ومسلكياته في قضايا تدبير الشأن العام، ولارتهان مواقفه لأقلية فرنكوفونية متساهلة مع المشروع الصهيوني متنفذة داخلة. أما من ناحية المشاركة مع حكومة يرأسها حزب الاستقلال، فالتوجه العام أننا لسنا مستعجلين للمشاركة، مع احتمال مساندته. ويرتكز هذا الاختيار على عناصر عدة: أن الحزب في بداياته من حيث القدرة على تدبير الشأن العام، وحتى تكون مشاركتنا طبيعية، يحتاج لفترة إضافية، لا سيما وأن غالبية نوابنا هم جديدون على المجلس، وسيتاح لنا في هذه المرحلة، التقدم أكثر في استيعاب السياسات العمومية وضبط الآليات والقنوات المتحكمة فيها، والتفاعل مع الأجهزة والمؤسسات المتداخلة فيها، ولهذا نعتبر أن الوضع الطبيعي هو أن العمل على التأقلم مع الوضع الجديد للحزب داخل مجلس النواب. أن التركيز الإعلامي والدولي على نتيجة الحزب في الانتخابات الأخيرة، رفع من هاجس خلخلة التوازنات السياسية والتوجهات العامة للبلاد، إذا ما تقدم الحزب نحو المشاركة الحكومية وزاد من معدلات التخويف منه، مما سينعكس سلبا على الشروط الإيجابية لمشاركة الحزب في الحكومة، ولهذا نعتقد أن الولاية التشريعية الحالية، ستكون محطة للتدليل على حقيقتنا كتوجه معتدل إيجابي، والقطع النهائي مع كل التخويفات منا، والتي يحاول اللوبي الفرنكو صهيوني المتنفذ في الإعلام الرسمي وغير الرسمي بثها. واعتبارا للعنصر الثالث، فلا نعتقد أن الحزب سيتغول أكثر في المعارضة، مما قد يخلق خالة من اللاستقرار السياسي والارتباك الحكومي، بل على العكس، إن المتأمل في قضايا القوى الحزبية الوازنة، سيلحظ عودة الاعتبار للمرجعية الإسلامية واستيعابا للأخطاء الحكومية السابقة في هذا المجال، ومن ناحية فإن معارضة الحزب ليست معارضة ميكانيكية بل هي معارضة إيجابية ناصحة، وليس من المفروض أن تكون معارضة بل على الأرجح أن تكون مساندة نقدية لا سيما إذا ما كان حزب الاستقلال على رأس الحكومة. كما يثار العامل الذاتي كعنصر غير مساعد على المشاركة في الحكومة، ولا نعتقد أنه عنصر محدد، فعطاء حزب العدالة والتنمية انبنى على الرصيد الفكري والتربوي والتنظيمي والهيكلي لحركة التوحيد والإصلاح، سواء من انتقل للعمل داخل الحزب، أو من بقي داخل الحركة ، فالكل مجند لإنجاح التجربة والارتقاء بها، ولهذا لا نعتبر أن السبب هو العامل الذاتي، فالعمل الحكومي هو مدرسة للتأهيل والتفعيل وتعبئة البنيات، فلا يمكن أن نتردد فقط لاعتبار عدم الاستعداد، وهذا عذر لا يقبله من صوت علينا. الخلاصة، أن موقف الحزب يتأسس على عدم حرق المراحل والتقدم التدريجي في رفع فعاليته السياسية بما يخدم مشروع الدفاع على الهوية الإسلامية للمغرب والحفاظ على ما تبقى من بنيات إسلامية في المجتمع، وتنمية شروط اشتغالها الإيجابي، والعمل على الضغط من أجل انتهاج سياسات اجتماعات عادلة وإصلاح أوضاع القضاء والإدارة وتشجيع شروط الاستثمار والتنمية. أولويات وقضايا استعجالية ثمة اختزال لعملية الإصلاح والتغيير الاجتماعي في العمل الحكومي، وفي المقابل التنقيص من أهمية العمل البرلماني، فضلا عن أن احتلال الحزب الموقع الثالث في الخريطة السياسية يرفع من قدرات تأثيره في المستويات الثلاث، وذلك لصالح مجموعة من الأولويات والقضايا الاستعجالية وعلى رأسها: العمل على الإصلاح الجذري للتسيير الحكومي من أجل تخليقه وعقلنته وإكسابه السرعة والجرأة المطلوبتين، بالإضافة إلى تعميق مستوى التواصل. الانخراط وباستعجال للحسم في ملفات مدونة الشغل، والإصلاح القضائي والإداري ومراجعة النظام الضريبي وتخفيفه لتعبئة الاستثمار. وبخصوص ما تداوله الإعلام حول قضية الشريعة الإسلامية، فنعتقد أن روح الشريعة ومبدأها هو تحقيق العدل الاجتماعي، كمطلب سام ومركزي يؤطر تنزيل أحكام الشريعة، ونحن كحزب سياسي مرجعيته الإسلام، لنا مطالب ترتبط بمواجهة عدد من الانحرافات الصارخة عن الإسلام في الحياة العامة، بما يعطي للصفة الإسلامية للدولة مدلولها الفعلي والعملي، وسنتدرج في المطالبة بعدد من مقتضيات ذلك، من مثل الترخيص للبنوك الإسلامية، وتعزيز المرجعية الإسلامية في نظام التعليم والإعلام وفي توجيه السياسات الاقتصادية، وتق،ية مؤسسات التدين والأخلاق في المجتمع، واحترام يوم الجمعة، ومناهضة أسباب الانحراف الأخلاقي في المجتمع كالترخيص للخمارات، والحانات ومؤسسات القمار وغض الطرف عن سياحة الجنس والدعارة إلى غيرها من الانحرافات التي يوجد استنكار عام لها. أما مسألة تطبيق الحدود الشرعية، فهي قضية مطروحة على فقهاء الأمة من الاجتهاد والتجديد بما يراعي مقاصد الشريعة الإسلامية، ويستوعب معطيات العصر الحالي إجمالا، ومعطيات الواقع الاجتماعي والعلاقات الإنسانية تحديدا، من أجل استنتاج الخلاصات العملية ذات العلاقة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وفي هذا الصدد، يمكن التمثيل هنا بقضية قطع يد السارق، فقد أنفذها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بشروط، وأوقفها عمر مؤقتا لعدم تحقق تلك الشروط وذلك ما ينطبق على ظروفنا الآنية. إن المطلوب هو عملية اجتهادية عميقة حتى لا يكون تطبيق الشريعة مدعاة لتغيبها وتخويف الناس منها، بما قد يضر بمقاصد الإسلام في العدل والحرية والأمن. حزب العدالة والتنمية واستحقاقات المرحلة إن الحصيلة الوازنة للحزب في الانتخابات والانتظارات والتي تعلقها فئات عريضة عليه، فضلا عن الترقب الشديد المحيط به، يطرح تحديات واستحقاقات كبرى على الحزب، ينبغي الاستجابة لها باستعجال وفعالية، وإسهاما في ذلك، تبرز أمامنا عدد من الاستحقاقات: العمل على إعادة هيكلة الحزب، مركزيا ومحليا، والانفتاح أكثر على المجتمع، لا سيما في ظل الطلبات الكثيفة للانخراط فيه. مراجعة المنظومة التربوية للحزب من أجل الانخراط أكثر في التأهيل التربوي لأنصاره خصوصا وللمحيط المجتمعي له عموما. التأهيل الشامل لآليات التواصل والإعلام والإشعاع في الحزب. تقوية وتطوير بنيات ومؤسسات البحث والتخطيط والدراسة من أجل رفع قدرة الحزب على بلورة البرامج واقتراح السياسات. ونعتقد أن هذه الاستحقاقات الأربع، تكتسب أولوية حاسمة لضمان ريادة الحزب للدفاع عن الهوية الإسلامية وصيانة رصيد الثقة فيه وتطويره. عبد الإله بنكيران