من "الأعراف" السياسية الراسخة التي يؤكدها تاريخ الحكومات المغربية منذ الإعلان عن استقلال المغرب، هو ندرة قرارات الاستقالة أو الإقالة في دائرة أعضاء الحكومات. ومند الحكومة الأولى التي ترأسها مبارك البكاي لهبيل في 7 ديسمبر 1955، إلى الحكومة الواحدة والثلاثين التي يرأسها اليوم الأستاذ عبد الإله ابن كيران والتي أعلن عنها بتاريخ 10 أكتوبر 2013، لم يسجل تاريخ الحكومات المغربية، مما أسعفنا البحث في الوقوف عليه، سوى حالات قليلة جدا من الاستقالة وغياب "كامل" للإقالة. والمقصود هنا الاستقالات أو الإقالات التي تتم في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة وليس التي تتم في إطار مراجعة حزب سياسي مشارك في الحكومة لموقفه من تلك المشاركة، كما هو الشأن بالاستقالات الخمس التي قدمها وزراء الاستقلال في النسخة الأولى لحكومة عبد الإله ابن كيران، والتي جاء على إثرها التعديل الحكومي الذي أفرز الحكومة الحالية. وفي التقدير يمكن الحديث عن استقالتين حقيقيتين قديمتين تمتا في أزمنة مختلفة لكن من طرف شخص واحد هو أحمد رضا كديرة، الأولى سنة 1964 والثانية سنة 1965، وكلها كانت استقالات احتجاجية على قرارات حكومية معينة. وهناك استقالة ثالثة من محمد زيان سنة 1996 يختلف المراقبون حول اعتبارها استقالة حقيقية أو أنها "إقالة" مقنعة عقابا له على تصريحات على الهواء هدد فيها بالاستقالة. لقد سادت طيلة عمر حكومات الاستقلال أعراف، استندت في جزء منها على مضامين وفلسفة دساتير تلك المرحلة، تنظر إلى الاستقالة على أنها موقف سلبي يتعدى الحكومة. وتنظر إلى الإقالة على أنها قرار ينم عن عدم الرضا مصدره أيضا يتعدى الحكومة، ويتجاوز في هدفه شخص الوزير المقال إلى الحزب الذي ينتمي إليه. و ينظر في العموم إلى الإقالة والاستقالة، في سياق الصراع السياسي الذي ميز تلك المرحلة، على أنهما مؤشرات عن عدم الاستقرار السياسي. وإذا أمكن في السابق الحديث عن ما من شأنه أن يبرر تلك الأعراف غير الطبيعية، كما أشير إلى بعضها بتركيز، فإنه مع دستور 2011، ومع المناخ الوطني الذي تغيب فيه اليوم كل مبررات الاستمرار على النهج القديم، وفي ظل مناخ دولي وإقليمي أصبحت فيه إقالة الوزراء أو استقالتهم أمرا عاديا، بل مطلبا يفرضه مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، فإنه من غير المقبول الارتهان إلى تلك الأعراف غير الصحية، التي تنمي اللامسؤولية وتشجعها و تحميها، و تناقض التجارب الحكومية في مختلف البلدان التي أصبح فيها إقالة وزير أو استقالته أمرا متواترا وجد عادي. كما لا تنسجم تلك الأعراف مع المنطق الإنساني، والمنطق السياسي، والمنطق الإداري، والذي يكون فيه قرار الإقالة أو الاستقالة إجراءا واردا ضمن مختلف الإجراءات العادية. إن ثقافة الاستقالة والإقالة تتجاوز في فلسفتها الحسابات السياسية الضيقة إلى ما هو أعمق. فالاستقالة والإقالة تعبير عن الالتزام السياسي والأخلاقي تجاه عموم الشعب، ومع الناخبين بالخصوص، قبل أن يكون تجاه أي جهة أخرى. وإن إقبار ثقافة الإقالة والاستقالة استخفاف بالشعب بالناخبين قبل أي شيء. إن الأعراف التي تستبعد منطق وثقافة الإقالة والاستقالة من العمل، أعراف مدمرة ينبغي التخلص منها، لأنها في العمق توفر شروط انتشار ثقافة وأعراف اللامسؤولية لما تمثله من ضمانات سياسية تحمي المسؤولين من تحمل مسؤولياتهم السياسية أمام الرأي العام. ومناسبة هذا الحديث تصريح محمد اوزين، وزير الشباب والرياضة، لوكالة المغرب العربي قبيل دخوله اجتماع المجلس الحكومي ليوم الخميس الماضي، قال فيه إنه "مستعد لتحمل مسؤوليته وتقديم استقالته إذا ما ثبتت مسؤولية وزارته في قضية أرضية ملعب المركب الرياضي مولاي عبد الله". واستقالة الوزير اوزين أو إقالته، لن يشكل حدثا سياسيا كبيرا بالنظر إلى جوهر الدستور، ومستوى الاستقرار السياسي الذي يعرفه المغرب، ووضعية الأغلبية الحكومية التي تتميز بقوة العلاقات بين مكوناتها. و أكثر من ذلك فالحزب الذي ينتمي إليه الوزير اوزين أعلن استعداده تقبل أي قرار بهذا الشأن، حيث صرح امحند العنصر، الأمين العام لحزب الحركة الشعبية الذي ينتمي إليه الوزير اوزين، لوكالة المغرب العربي للأنباء " أن المسؤولية السياسية لوزير الشباب والرياضة، "قائمة وأكيدة"، مبرزا أن الحزب لن يساند أي شخص في حال ثبوت ارتكابه لخطأ فادح ". موضحا في ذات التصريح، أن حزبه " لن يدعم أيا من مسؤولي الحزب إذا كشفت التحقيقات الجارية تورطه في هذه القضية" مشيرا إلى أنه " إذا ثبت ارتكاب الوزير لخطأ مادي أو وجود تورط مقصود فإن الحزب سيتخذ الموقف المناسب في إطار هياكله". إن استقالة وزير أو إقالته اليوم لن تكون لهما نفس الدلالات السياسية القديمة، ولن تكون لهما أيضا نفس التداعيات السياسية التي كانت تهيمن على المنطق السياسي المعتمد في العهد القديم. وهذه فرصة سانحة لفتح صفحة التصالح مع ثقافة الإقالة والاستقالة، بصفتهما من الإجراءات الجوهرية والعادية في ربط المسؤولية بالمحاسبة، باعتمادها في الدائرة الحكومية وفي دوائر أخرى تغيب فيها، فهذه الخطوة وحدها تمكن من التحرر من إحدى أثقل الأعراف السياسية في المغرب. وقد يعطي ذلك التدبير الحكومي نفسا أقوى من المسؤولية، نقيض اللامسؤولية التي تنتج عن "الضمانات السياسية" التي كانت توفرها تلك الأعراف المتخلفة والبائدة. إن الحكومة الحالية، التي وعد أو هدد أكثر من وزير فيها ورئيسها نفسه بالاستقالة احتراما لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة إذا تبث إخلالهم بمسؤولياتهم، تتوفر لها جميع الشروط الدستورية والسياسية التي تؤهلها للقطع مع أعراف اللامسؤولية، ولتفتح صفحة جديدة للتجربة الحكومية المغربية، تعتمد أعرافا بديلة تقوي مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتقوي الإحساس بالمسؤولية لدى الوزراء. ومن شأن هذه الأعراف الجديدة أن تؤسس لضمانات جديدة تحمي قيم المسؤولية وثقافتها، ليس في دائرة الحكومات فحسب بل في كل الإدارات المغربية، التي لا يقال فيها مسؤولون ولا يستقيلون مهما أحاطت بهم الكوارث والفساد. فهل تتقدم حكومة ابن كيران نحو تكريس أعراف المواطنة الحقيقية في تدبير الشأن العام، بالقطع مع أعراف حماية اللامسؤولية؟