"الخطباء والانتخابات" أو "الخطباء والسياسة" عنوان قد يبدو تفريغا علمانيا جريا على سنن الاتجاهات العلمانية، وهذا احتمال له حظه من الصدق، فالإسلام عقيدة وشريعة لا يعطى ما لله لله وما لقيصر لقيصر على نهج الديانة المسيحية، فالكل لله، مصالح الدين ومصالح الدنيا، والحاكم والفقيه، كل في واحد، وما التفريق إلا تركة من تركات الاستعمار الذي ابتليت ديار الإسلام بنزاعاته الفكرية المنحرفة. ولكن مناسبة القول هو السعي إلى إجلاء حقيقة الحملة الشرسة التي تشن على فقهاء الأمة ومرشدي المجتمع إلى الخير، أي الخطباء. وقد أججت هذه الحملة وسائل إعلامية ومنابر السياسة لاحظ لها من أصحاب المنبر ورواد المسجد، وتزامنت مع قرب الاستحقاقات الانتخابية المزمع إجراؤها خلال شهر شتنبر المقبل، مما زاد من توهجها وازدياد ثقلها. فالخطيب يجب عليه في اعتقاد هذه الوسائل والمنابر المغرضة، أن يعزل وينحي عن الخوض في هذا المجال فليس له أن يؤكد على الشهادة وأمانة المسؤولية، وليس له أيضا أن يزكي الأخلاق الفاضلة الفاضحة للتزوير والارتشاء، فاقتحامه لهذه المواضيع يفوت الفرص على المزورين والراشين والمرتشين والماشين بينهم والمفسدين في العباد والبلاد . فأصحاب هذا الاتجاه ذاقوا مرارة مواقف نبيلة وقفها العلماء والخطباء في تبيان الحق للناس في محطات وطنية عديدة . فصار الخطيب من أدعياء الإسلام وبركان الفتن الدينية مستغلا منبره بوقا للدعاية الحزبية ومسجده مقرا حزبيا، الأمر الذي استدعى من أصحاب النيات الخبيثة أن ينصبوا أنفسهم مراقبين ومخبرين للوشاية بفقيه أكد أن التقوى سبيل النصر، وآخر ندد باستقبال قتلة الأطفال ومهدمي الديار بأرض فلسطين المسلمة. وللأسف الشديد، هذ الحملة أتت بعض أكلها في توقيف كثير من صلحاء المجتمع وثنيهم عن الجهر بالحق، وكممت أفواها أخرى وجعلتها تركن إلى ركن شديد يؤمن لها رزقها ومكانتها الاجتماعية وينأى بها عن كل الضغوطات والمشاق. ولكن الحقيقة التي يجب أن تستقر في أذهان من تولوا كبر هذه الحملة، أن الخطباء والعلماء والفقهاء دعاة إصلاح وإرشاد سوف لن تؤثر فيهم شطحات من ارتهنوا إلى الانتخابات حلا لوجودهم ومكانتهم ومناصبهم ونفوذهم، فباب الخطيب والفقيه والعالم سيبقى دائما مفتوحا تقصده القلوب المؤمنة تسأله أمر دينها ودنياها، موقنة أن هذه الحملة مجرد سحابة صيف تؤطرها الأهواء والتقلبات المزاجية. الملف الذي تخصصه التجديد للموضوع يكشف زيف الادعاءات التي تروج لها تلك المنابر الإعلامية أو السياسية من حيث أهدافها الحقيقية الكامنة من وراء تفجيرها. وقد تضمن الملف وثائق رسمية عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ووظيفة الخطيب، والمذكرة الشهيرة الموجهة من الوزارة إلى نظارها حول الانتخابات والحزبية في منابر الخطباء، وحوارا مع الدكتور عبد السلام بالجي وهو أستاذ جامعي في القانون الدستوري والاقتصاد الإسلامي وخطيب جمعة في الوقت نفسه، وتصريحات لخطباء معزولين كل واحد منهم ينأى بالمسجد أن يكون ساحة للدعاية، مؤكدين أن توقيفهم لا يعدو أن يكون قرارا سياسيا أو إيديولوجيا في كثير من حالاته، مع تأكيدهم أن المجالس العلمية والوزارة الوصية هي التي تملك الحق في التوقيف أو التنصيب بناء على تسجيلات للخطباء الموشى بهم لاستماتهم في إظهار الحق دون لومة لائم، وحقد حاسد، تؤكد انحرافهم، إن كان هناك انحراف، عن الخطوط المسطرة، أو تبين خروجهم عن الموضوع، الذي من المسلم به أنه ملكهم وأهله وهم أدرى به أكثر من غيرهم بما استحفظوا من كتاب الله وبما أوئتمنوا عليه.