الإنفاق في الحياة لا بعدها )ا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون). البقرة252. أمر بالإنفاق وليس بالخسران الأمر بالإنفاق والحض في القرآن الكريم كثير وفي سياقات متعددة وبأساليب وصيغ مختلفة. وهو أمر بالإنفاق وليس بالخسران ولا الخسارة، ولذا فما يقوله كثير من الناس للتعبير عما أنفقوا أنهم خسروا كذا وكذا ، ممايعد من التعابير الشنيعة التي يجب تجنبها والتزام لغة القرآن بدلها، فنعبر بالإنفاق وليس بالخسران. ومن رحمة الله تعالى بنا أنه لا يكلفنا ما لا نطيق كما قال تعالى :( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) البقرة 285 ، وقال تعالى :( ما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج 76، ولذلك فأمره سبحانه لعباده المومنين بالإنفاق مما رزقهم جاء دون تقييده بقلة أو بكثرة، إذ الغاية هي تقرير مبدأ الإنفاق حتى يصير خلقا للمؤمن، فتصيبه دعوة الملائكة كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :> ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا < أخرجه البخاري وغيره. ومما يعين المرء على الإنفاق أن يذكر أن الله سبحانه هو الذي رزقه وأنه لم يرزق نفسه، إذ الرزاق واحد وهو الله سبحانه وتعالى، فيتحول المومن إلى عبد مأمور مطيع يتصرف في ملك سيده كما أمر سيده وأراد. والإقرار بمبدأ الاستخلاف في المال وليس الملكية المطلقة له، في غاية الأهمية فالمال مال الله والعباد مستخلفون فيه كما قال تعالى:( آمنوا بالله ورسوله، وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) الحديد7. الدرس الذي لم يفهمه قارون وهذا هو الدرس الذي لم يفهمه قارون حين ذكره به من قومه فقالوا له :( وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا و أحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ) القصص 77. فذكروه بأن ما بيده من النعم هو فيه مرزوق لا رازق لنفسه وأنه لذلك مدعو للإحسان كما أحسن الله إليه. فقال مغرورا مخادعا لنفسه ظالما لها، ( إنما أوتيته على علم عندي ) القصص 78، فانتقم الله منه بالخسف فقال تعالى :( فخسفنا به و بداره الأرض ) القصص 81 . وبقيت قصة قارون عبرة لكل صاحب مال يغتر بماله وينسى فضل الله عليه. ولا يظن الإنسان أن الأمر بالإنفاق بإمكانه أن يفعله متى شاء، بل إن الله تعالى منحنا فرصة واحدة للطاعة لا تتكرر إنها فرصة الحياة الدنيا ولذلك حين يقف الكفار على الحقيقة الكبرى التي تنتظرهم ويطلبون إن تمنحهم فرصة جديدة للطاعة ولا يقبل الله تعالى منهم كما قال سبحانه:( وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) فاطر 37. وتأسيسا على هذا المبدأ تخلق المؤمنون بخلق المسارعة في الخيرات والتنافس فيها كما قال تعالى عنهم :( ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) آل عمران114، وقوله تعالى: ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون ) المؤمنون 62. وهذا عام في كل الطاعات إذ كلها مطلوبة منا في هذه الحياة، وعلى المومن أن يعمل فيه أقصى ما يستطيع. من أجل ذلك قال تعالى في هذه الآية :( من قبل أن ياتي يوم ). وإنما هو يوم لكنه ليس كباقي الأيام ( يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) وهو يوم القيامة والوصف الذي جاء في هذه الآية هو واحد من أوصاف شتى ليوم القيامة جاءت في القرآن الكريم، وحري بنا جميعا أن نتأمل مشاهد القيامة كما قربها إلينا، وصورها القرآن الكريم. وبنحو الصيغة التي جاءت في هذه الآية وجدنا هذا اليوم يوصف بأوصاف شتى، منه أنه :( يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار) غافر52، وهم في أيامنا مدعوون للإعتذار، والله يقبل عذرهم بحسب إخلاصهم فيه وذلك بالتوبة النصوح المستوفية للشروط : من إقلاع وندم وعزم على عدم العودة للظلم وإرجاع الحقوق لأصحابها، لكن في ذلك اليوم لا ينفعهم عذرهم. في أيامنا هذه قد ينال المومنين بعض الأذى ضمن سنة الابتلاء التي لا تتخلف، ولكن ما قيمة كل الدنيا إذا قورنت ب ( يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم ) الحديد12. أما الكفار والمنافقون وحزب الشيطان ككل، فهم في أيامنا يستطيعون التلبيس على الناس ويخفون جرائمهم وحقيقتهم الخبيثة، وقد يعلون بعض العلو لكن كيف يكون حالهم ( يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه و الله على كل شيء شهيد ) المجادلة 6. وهكذا سنجد القرآن الكريم يقدم لنا هذا اليوم تقديما خاصا كما في هذه الآية ( يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ) فذكر أوصافا ثلاثة، واقتصر منها على اثنين في قوله تعالى :( قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن ياتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) إبراهيم 33. أما الأوصاف الثلاثة المذكورة في هذه الآية على الشكل التالي: -لا بيع فيه : بمعنى لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال لو بذله. ولو جاء بملء الأرض ذهبا. فالمقامات هناك ليست للبيع، يمكن للإنسان أن يشتري الدرجات والمقامات بما يقدم من مال خالص لوجه الله في حياته. أما يوم القيامة فهو يوم لا بيع فيه كما قال تعالى :( إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم) المائدة 38. -ولا خلة : أي ولا تنفع الصداقة ولا المودة ( يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) عبس 34. فلا يغتر الإنسان هنا بكثرة الأصدقاء والأخلاء، ولينظر إلى صلته مع ربه سبحانه وتعالى. بل إن هذه الخلة تنقلب إلى عداوة إلا أن تكون لله كما قال تعالى :( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا النتقين ) الزخرف 67. -ولا شفاعة: المراد بالشفاعة الوساطة في طلب المنافع ودفع المضرات، ويوم لقاء الله ليس هناك شفاعة إلا بإذنه، ومن الناس من لا تنفعهم شفاعة أحد كما قال تعالى:( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) المدثر 48، وهذا الذي سيتحقق منه أهل النار فيقولون كما أخبر عنهم سبحانه:( فما لنا من شافعين و لا صديق حميم ) الشعراء 100. والشفاعة المنفية هنا لا تعارض ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة. لأن الشفاعة حق لله يأذن بها لمن يشاء كما قال تعالى :( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) البقرة 254. وقوله تعالى:( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) سبأ 23. ولذلك فشفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم نطلبها من الله. وخص سبحانه هذه الأمور الثلاثة: البيع والخلة والشفاعة وهو يأمر بالإنفاق، لأنها أصول التقصير. الإنسان قد يغتر بمتاعه فيظن أن ذلك ينفعه بين يدي الله فنفى البيع؛ أو يغتر بأصدقائه وخلانه بين يدي الله فنفى الله عنه ذلك؛ أو يغتر بالشفاعة ويظنها حقا مضمونا فنفى عنه ذلك. وهذا المعنى هو المشار إليه في قوله تعالى: ( واتقوا يوما لا تجزي نفس شيئا، ولا يقبل منها شفاعة ولا يوخذ منها عدل ولا هم ينصرون ) البقرة 47. الكفر والظلم ثم قال تعالى: ( والكافرون هم الظالمون ) ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا، ولا بد أن نرى في الكفر والشرك ظلما، بل هو أشد الظلم. وقال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال : (والكافرون هم الظالمون)، ولم يقل : الظالمون هم الكافرون، فله الحمد في الأولى والآخرة وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطاته. الدكتور :مولاي عمر بن حماد: أستاذ علم التفسير بكلية الآداب بالمحمدية