المعطيات التي كشفت عنها أرقام منظمة الصحة العالمية في جنيف ليست جديدة في كشفها لارتفاع نسبة الانتحار في المغرب، فقد سبق أن نشرت إحصاءات رسمية عن نسبة الانتحار بين سنة 2009 و 2012 قدمت بعض التفاصيل عن الجنس والعمر، والمحاولات التي انتهت بالموت والمحاولات التي تم إنقاذها، وكذا الوسائل المستعملة في عملية الانتحار، كما قدمت مصالح الدرك الملكي أيضا إحصائيات عن نسبة الظاهرة في العالم القروي بتفاصيل قريبة من الإحصائيات السابقة نشرت هي الأخرى في تقارير صحفية. والحقيقة أن الجديد في تقرير منظمة الصحة العالمية ليس هو ارتفاع نسبة الانتحار في المغرب، فهذه الملاحظة تكاد تكون مطردة في العالم برمته، وحتى في دول العالم العربي، إنما الجديد في التقرير أنه ألقى الضوء على ظاهرة انتحار المسنين، لاسيما في أوساط الرجال، إذ كشف أن معدل الانتحار في أوساط المسنين بلغ 14.4 حالة انتحار لكلِّ مائة ألف نسمَة، وشكل المسنون من الرجَال 30,1 حالة في كل مائة ألف بينما لم يتعد عدد المنتحرات من النساء المسنات 3.7 حالة في كل مائة ألف، كما تحدث التقرير عن استقرار نسبة الانتحار في الشريحة العمرية ما بين 15 و 29 في حدود 5.9 حالة في مائة ألف نسمَة، بينما بلغ معدل الانتحار لدى الفئة العمريَّة 30 و 49 حوالي 6.4 في كل مائة ألف. والواقع أن هناك قراءتان يمكن تقديمهما لتفسير هذه الأرقام: - قراءة تسند إلى مقاربة التحولات القيمية، والتي وتحاول تفسير هذه الأرقام بالتحديات القيمية التي أصابت منظومة القيم، وأفرزت العديد من الظواهر المقلقة التي لا تنحصر في ظاهرة الانتحار، وإنما تمتد لتشمل ظواهر أخرى مثل الجريمة والمخدرات والدعارة وسرعة التجنيد في الشبكات الإرهابية وغيرها من الظواهر التي يشكل الاختلال في منظومة القيم مداخل رئيسية لتناميها. - قراءة أخرى تستند إلى مقاربة السياسات العمومية، والتي تحاول تفسير ارتفاع نسبة الانتحار في أوساط المسنين إلى غياب أو ضعف وقصور السياسات العمومية التي تغطي هذه الفئة. والحقيقة أن الاعتراض على القراءة الأولى جدي، بحكم أن ظاهرة الانتحار عرفت استقرارا في الفئة العمرية الشابة خلال العشر سنوات المشمولة بالتقرير، كما أن الظاهرة عرفت انحسارا ملحوظا في أوساط النساء، ولم يسجل الارتفاع المهول إلا في أوساط المسنين من الرجال. كما أن الاعتراض على القراءة الثانية هو الآخر جدي، بحكم أنه لم تكن هناك سياسة عمومية سابقة تخص هذه الفئة العمرية، ومع ذلك لم تكن هذه الظاهرة تعرف مثل هذا الارتفاع، مما يعني أن هناك عوامل أخرى غير السياسات العمومية تتدخل لضبط هذه النسب أو رفعها. والتقدير أن تركيب هاتين القراءتين يمكن أن يقدم فهما موضوعيا للظاهرة، فقد حدثت تحولات قيمية كبيرة جعلت هذه الفئة- المسنين- تحرم من الحاضنة الاجتماعية، وفي غياب أو قصور السياسات العمومية المواكبة، سجل هذا الارتفاع المحلوظ في نسبة انتحار هذه الفئة، بدليل أن المقبلين على الانتحار في أوساط الرجال أكبر من النساء، وأنه في السابق، وعلى الرغم من غياب سياسات عمومية مؤطرة، فقد كانت منظومة القيم الأسرية والمجتمعية بالإضافة إلى السياسات الأهلية ، تقوم باحتضان هذه الفئة ورعايتها ومدها بالدعم النفسي الذي يحيي لها الأمل في الحياة. الرسالة الآن واضحة، فنقطة التوازن المفترضة بين دور المجتمع ودور الدولة فقدت، وأنه ما لم يتم تداركها، فإن الانتحار وغيره من الظواهر المقلقة ستكون مرشحة لارتفاع نسبتها، ما لم يتم دق ناقوس خطر يعيد الاعتبار للمنظومة القيمية بكل أبعادها، ويدفع السياسات العمومية للاشتغال بطول نفس وتوفير الإمكانات الضرورية لتوسيع وتقوية منظومة الحماية والرعاية الاجتماعية بدل العمل بأسلوب الحملات الذي لا يعطي إلا أثرا محدودا يذهب مع الزمن.