ظنت (إسرائيل) أن غزة لقمة سائغة، وأنها تستطيع القضاء على مقاومتها بسهولة، ولهذا تعددت الأصوات داخل الكيان الصهيوني بضرورة إعادة احتلال غزة، وتصفية حماس والجهاد الإسلامي وكل فصائل المقاومة، وظهر حماس شعبي للفكرة دفع رئيس وزراء إسرائيل لاتخاذ قرار سريع بشن العدوان على غزة. لقد قرر رئيس وزراء الصهاينة خوض حرب ستؤدي إلى تحصين قطاع غزة، وذلك من خلال قوة ردع سيحسب لها الكيان حسابا دقيقا في المستقبل. التخبط الإسرائيلي وجدت إسرائيل نفسها متخبطة بحربها الجديدة على غزة لأنها لا تملك معلومات استخبارية دقيقة حول القدرات العسكرية الغزية ولا حول مواقع هذه القدرات، فظهرت كالكلب المسعور يضرب شمالا ويمينا دون أن يصيب أهدافا تقلل من قدرات المقاومة على الرد. ضربت إسرائيل مواقع كثيرة، لكن الانفجارات التي كانت تحصل اقتصرت على انفجارات قنابل طائراتها، ولم يحصل أن انفجر مخزن صواريخ أو ذخيرة، وقتلت العديد من الناس لكنها لم تقتل مجاهدين في مواقعهم العسكرية. وجدت (إسرائيل) نفسها متخبطة، فهي لا تملك معلومات استخبارية دقيقة حول القدرات العسكرية الغزية ولا حول مواقع هذه القدرات، فظهرت كالكلب المسعور يضرب شمالا ويمينا دون أن يصيب أهدافا تقلل من قدرات المقاومة على الرد هدمت بيوتا، لكنها لم تصب مواقع عسكرية، وقتلت المارة في الشوارع والأسواق والجمعيات الخيرية ودور المعوقين، وكان نصيب الأطفال والنساء من الشهداء نسبة عالية. تبين للصهاينة أنهم لم يجمعوا من المعلومات ما يكفي لخوض حرب ناجحة، فأخذوا يتنابزون ويتبادلون الاتهامات العلنية. الجيش يتهم المخابرات، والمخابرات تتهم الجيش، وبدا أن شعور الخسران قد تملكهم. خاضت (إسرائيل) حروبها السابقة معتمدة على معلومات دقيقة مكنت جيشها من إصابة الأهداف بدقة، أما الآن فتلك الدقة لم تعد موجودة فتوجهت إلى بيوت المواطنين تهدمها فوق رؤوس ساكنيها. هذا الجيش الذي لا يقهر لم يملك أهدافا واضحة، ولم يعد قادرا على العمل بمهنية، وتلك الأخلاق التي طالما تحدثت عنها إسرائيل كميزة بارزة لسلوك جيشها تحطمت تماما في العدوان الهمجي الوحشي على الآمنين الأطفال والنساء. يظهر جيش الاحتلال الإسرائيلي الآن أمام العالم على أنه مهزلة وغير قادر إلا على المسّ بالأبرياء والمساكن. إنه يتحول إلى أضحوكة على مستوى عالمي، ومكانته أخذت تتدنى أمام شعبه الذي يبحث عن أمن. ولكن ما الذي جعل الجيش الإسرائيلي يتخبط؟ إنها العقلية الأمنية الفلسطينية التي هجرت زمن "الفهلوة" والارتجالية وطورت العقلية الأمنية المهنية الجديدة. كانت الساحة الفلسطينية سابقا مسرحا للمخابرات الإسرائيلية، واستطاعت إسرائيل أن تزرع جواسيس وعملاء في كل فصيل وكل زاوية ومؤسسة وجمعية فلسطينية، وكانت قادرة على جمع معلومات دقيقة عن نشاطات الأفراد والفصائل والأحزاب والخلايا القتالية لتوقع بها بسهولة. لقد استفادت المقاومة الفلسطينية في غزة من التجارب، ووعت أن الحرص الأمني هو السبيل نحو الإيقاع بالعدو لأن في ذلك ما يعميه عن حقيقة الأوضاع. قامت حكومة حماس التي تشكلت في غزة بمطاردة العملاء والجواسيس بهدف القضاء تماما على الظاهرة، وكلما قامت حماس باعتقال جاسوس كانت رام الله تهب دفاعا عنه قائلة إنه من العناصر الوطنية وإن الاعتقال سياسي. لم تنجح المقاومة الفلسطينية في غزة تماما في القضاء على ظاهرة الجواسيس والعملاء، لكنها قضت على أعداد كبيرة، قلصت بصورة حادة من قدرة إسرائيل على الحصول على المعلومات. صحيح أن إسرائيل تملك وسائل تقنية عالية للحصول على المعلومات، لكن العنصر البشري على الأرض يبقى الأهم في جمع المعلومات الدقيقة والتوجيه. وقد عززت المقاومة حرصها الأمني في انتباهها لمخاطر استعمال الأجهزة الإلكترونية. بعض الأجهزة الإلكترونية جاسوس متنقل وينقل المعلومات باستمرار إلى العدو، وقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا نتيجة استعمالها، وعلى رأسها الخلويات المحمولة والشبكة الإلكترونية. الآن في هذه الحرب، أجهزة اتصال المقاومين الفلسطينيين والقيادات مغلقة، ولا يوجد لدى العدو ما يتسمّع عليه. تحييد الطيران والمدفعية يعتبر تحييد الطيران الإسرائيلي والمدفعية من أنجح التكتيكات العسكرية في حروب المقاومة الساكنة. سبق للمقاومة أن استعملت هذا التكتيك في جنوبلبنان وفي الحرب على غزة عام 2012. سلاح الجو الإسرائيلي قوي جدا، ومتطور، وطياروه مدربون تدريبا قاسيا وعاليا من الناحية المهنية، ولا يوجد لدى العرب سلاح جوي مثيل، ولا حتى لدى الدول الأخرى التي تصنع الطائرات الحربية عدا الولاياتالمتحدة، ولذلك كان من الضروري اتخاذ التدابير التي تقلل من التدمير الذي يمكن أن يلحقه سلاح الجو بالمقاتلين، وكانت الأنفاق العميقة تحت الأرض والاستحكامات و"الدشم" (السواتر الترابية) المجهزة للقتال والحياة العادية هي الحل. لا شك أن الذي توصل إلى هذا الحل عبقري ويتحلى بعقلية عسكرية مبدعة. بهذه الطريقة لم يستطع سلاح الطيران الإسرائيلي أن يهزم حزب الله في حرب 2006، ولم يستطع إحراز نجاح في حرب غزة عام 2012. فشل الطيران في ضرب المقاتلين ومواقعهم العسكرية فأخذ يضرب مواقع مدنية ويقتل المدنيين. قتلت (إسرائيل) 1200 لبناني عام 2006، و1400 فلسطيني عام 2008/2009. كانت تضرب مواقع تظنها منصات إطلاق أو مخابئ للمقاتلين، وكانت تفاجأ بأن الضربات التي تأتيها تنطلق من ذات المواقع التي كانت تظن أنها قضت على ساكنيها. ارتبكت إسرائيل في كل مرة، وانعكس ذلك على بياناتها العسكرية. كانت تعلن عن تقدم وقتل وإبادة، لكنها كانت تتراجع عن إنجازاتها في بيانات عسكرية لاحقة. سلاح الجو الإسرائيلي قوي ومتطور، ولذلك كان من الضروري اتخاذ التدابير التي تقلل من التدمير الذي يمكن أن يلحقه بالمقاتلين، وكانت الأنفاق العميقة تحت الأرض والاستحكامات و"الدشم" المجهزة للقتال والحياة العادية هي الحل غزة تعلمت الدرس جيدا، فبنت غزة تحت غزة. وهذا الفارق بين المقاومة والأنظمة العربية. المقاومة سهرت الليالي وتعبت وكدت وتحملت قسوة الإعداد والاستعداد، أما الأنظمة العربية فأرادت خوض المعارك ببدلات رسمية وبسراري يرافقن المواكب في الرحلات التوجيهية. كسب المعركة يحتاج إلى جهود مضنية وإخلاص ووفاء وانتماء وعقيدة قتالية صلبة، والمعركة ليست نزهة، ولا هي من أجل قتل أبناء الناس بلا ثمن. هذا التكتيك العسكري هو الذي يجعل المقاومة قادرة على الاستمرار، وهو الذي يحمي المعدات العسكرية الفلسطينية من الهجمات الجوية الإسرائيلية، وهو الذي يوفر للمقاومة عناصر المفاجأة إبان المعركة. مفاجآت المقاومة الفلسطينية الآن تفاجئ الناس في أن فاها ليس أكبر من قدراتها، وأن عصاها ليست أطول من قامتها. اعتاد الفلسطينيون والعرب على الخطابات الرنانة والكلام الساخن الكبير الذي يفوق القدرات. طالما أعطى قادة العرب والفلسطينيين تصريحات نارية دمرت (إسرائيل) ومن والاها مرات عدة، وأصابت العرب بالإحباط على طول الزمان. كانوا مجرد خطباء لا يتقنون الكذب إلا على شعوبهم. في غزة، الوضع مختلف تماما. كانت تصنع المقاومة السلاح وتهربه بصمت تام. لم تتفوه المقاومة بكلمة، ولم تقل للناس عن قدراتها العملية في التطوير والإبداع والاختراع، وأبقت الأمور مكبوتة حتى لا يأخذ العدو حذره. فاجأتنا المقاومة الفلسطينية بقلة كلامها وندرة تصريحاتها وبمقارباتها العلمية الممنهجة وتفكيرها العلمي المتطور. وبعد ذلك فاجأتنا وفاجأت العدو بعدد من الأمور وتتلخص بمدى الصواريخ المتزايد، وبالقوات البحرية المدربة بصورة مهنية راقية، وصواريخ مضادة للطائرات الحربية، وبقدرات صاروخية مضادة للدبابات والدروع. ومما يشد عضد المقاومة ما تشهد المعركة الدائرة الآن في غزة من تنسيق للعمل المقاوم بين مختلف قوى المقاومة، لم تعد تعمل الفصائل منفصلة بقيادات مستقلة، أو على الأقل هذا ما يظهر لنا من خلال أدائها العسكري. الفصائل تتعاون الآن، وتوزع الأدوار فيما بينها وذلك تبعا لقدرات كل فصيل. واضح أن حماس تتمتع بأدوار قتالية مختلفة عن تلك التي تقوم بها الجهاد الإسلامي أو ألوية الناصر صلاح الدين. تتكامل الأدوار ليكون هناك سيمفونية عسكرية فلسطينية متناغمة تماما ومؤثرة في صفوف العدو. هذا تطور كبير في الساحة الفلسطينية لأن الفصائل سابقا كانت تتسابق لإعلان مسؤوليتها عن أعمال عسكرية لم يقم بها أي فصيل، وكانت تدعي عمليات عسكرية وهمية ضد الاحتلال، وقضت في انتفاضة عام 1987 على الجيش الإسرائيلي عدة مرات من خلال بيانات كاذبة لا أصل لها. العقلية الفصائلية الجديدة مختلفة تماما، وتحقق للمقاومة صدقية عالية جدا. تهدئة وحصانة لعبت التهدئات في التاريخ الفلسطيني دورا محبطا ومكملا للهزيمة. أضرب الشعب الفلسطيني عام 1936 لمدة ستة أشهر ضد الانتداب البريطاني مطالبا بالاستقلال، وأقسمت قيادات فلسطين الإقطاعية في حينه على الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق المطالب، انتهى الإضراب دون نتيجة نظرا لتدخل الوساطات العربية لفك الإضراب والتعهد بأن الصديقة بريطانيا ستلبي المطالب. صحيح أن الشعب الفلسطيني قد تكبد تضحيات جساما هذه المرة، لكن هذه التضحيات هي التي تمنع الخسائر مستقبلا. لقد استشهدوا من أجل الحياة، من أجل أن يحيا الشعب والوطن، وقهروا ذلك الجيش الذي بات يُقهر انتهى الإضراب وفلسطين ضاعت. تقدمت الجيوش العربية في حرب 1948، لكن القبول بالهدنة من قبل الأنظمة العربية غير مجرى الحرب، وطرد الفلسطينيون من ديارهم. انتفاضة عام 1987 انتهت بالاعتراف ب(إسرائيل) وقراري مجلس الأمن 242 و338. المعنى أن الشعب الفلسطيني كان يقدم التضحيات التي ضاع وهجها في التسويات. أعتقد أن السلوك الفلسطيني سيختلف هذه المرة، وستصر المقاومة الفلسطينية على تحقيق شروط أهمها فك الحصار العربي الإسرائيلي المضروب على غزة. وهنا لا بد من التحذير من الوساطات العربية إذا جنحت المقاومة إلى القبول بوساطة. الدول العربية لا تحترم توقيعها، وليس لديها الاستعداد للوقوف بوجه إسرائيل إذا أخلت باتفاق التهدئة. على المقاومة أن تختار دولة تحترم نفسها، ولديها الجرأة والشجاعة على الوقوف بوجه إسرائيل إذا خرقت الاتفاق أو رفضت تطبيقه. وفي كل الأحوال، لا يجوز البحث عن تهدئة إذا رأت المقاومة أنها قادرة على الاستمرار في القتال وحشر إسرائيل في الزاوية. هذه المرة، من الممكن أن نفرض شروطنا على إسرائيل، نفَس إسرائيل ليس طويلا، وشعبها لا يتحمل، وعلينا أن نستعمله أداة ضغط على حكومته. وفي الأخير هل ستجرؤ إسرائيل على مهاجمة غزة مستقبلا بعد هذا الفشل الذي منيت به، وبعد هذه المقاومة المتطورة التي أبداها الفلسطينيون؟ لا أظن أن إسرائيل ستجرؤ على استباحة غزة في المستقبل. صحيح أن الشعب الفلسطيني قد تكبد تضحيات جساما هذه المرة، لكن هذه التضحيات هي التي تمنع الخسائر مستقبلا. هذه الدماء الزكية التي نزفت على أرض غزة تشكل الدرع الحصين الذي يردع إسرائيل عن القيام بمغامرات عسكرية مستقبلا. لقد استشهدوا من أجل الحياة، من أجل أن يحيا الشعب والوطن، وقهروا ذلك الجيش الذي بات يُقهر.