شدد الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، في خطبة الجمعة الماضي، على ضرورة التسلح بالدعاء في مواجهة ما يعتري الأمة من أزمات، وحذر من اليأس من رحمة الله باستعجال الإجابة من الله عز وجل، وقال بأن ذلك من وسوسة الشيطان، ودعا إلى التحصن منها بجعل الدعاء غاية وليس وسيلة، وبالوفاء بشروط الاستجابة. وتوجه في خاتمة خطبته، المنشورة بموقعه، بالدعاء إلى الله عز وجل بهلاك الغزاة الأمريكيين. إعلان العبودية لله بالدعاء قد عرفتم أن الإنسان عبد مملوك لله عز وجل، وقد عرفتم أن المطلوب منه أن يضع عبوديته لله عز وجل موضع التنفيذ، فيمارس عبوديته لله بالاعتقاد واليقين وبالسلوك والتطبيق. ومن أجلى مظاهر العبودية والعبادة لله سبحانه وتعالى دوام الالتجاء إلى الله ودوام الدعاء. وقد عرفتم مما ذكرتُ أكثر من مرة أن الدعاء مظهر من مظاهر عبودية الإنسان لله، فهو غاية وليس وسيلة، وقد بيّن لنا البيان الإلهي هذا عندما قال: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ ذاخرين) فَفَسَّر الدعاء بالعبادة، والعبادة بالدعاء. إذن لا يقولن قائل: أنا أدعو الله عز وجل بشرط الاستجابة، أنا أطلب منه فإن ألحفْتُ بالدعاء وثابرتُ على الطلب فلم يستجب فلسوف أتمرد عليه إذن، ولسوف أُعرض عن الدعاء، ولسوف أقرر أنه لم ينفذ ما قد ألزم به ذاته عندما قال: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ). أنت لا تملك عندما تطرق باب الله أن تشترط عليه ما تريد، أنت لست نِداً له، أنت عبده، مهمتك أن تعلن عن حاجتك إليه، مهمتك أن تقف على بابه ذليلاً منكسراً متجلبباً برداء العبودية له؛ سواء استجاب أو لم يستجب، فتح لك الباب أم أغلقه، حقق لك الآمال أم لم يحققها لك. مهمتك أن تظل ملتصقاً ببابه، مترامياً على أعتابه بل قل لي: إن أردت أن تتحول عن بابه إلى أي باب تذهب؟ ومن هو المسؤول الآخر الذي ستتجه إليه بالسؤال؟ لابدَّ أن يكون فرارك من الله إلى الله. سؤال الشيطان: هذا الدعاء فأين الاستجابة؟ أقول هذا أيها الإخوة حتى لا يطوف طائف النفس والهوى أو الشيطان في رأس بعض منكم فيقول له الشيطان: ها قد دعوتَ الله عز وجل مع الآلاف المؤلفة الذين دَعوا، أين هي الاستجابة؟ وأين هو الوعد الذي قطعه الله عز وجل على ذاته؟ إياكم وأن يُدْخِل الشيطان هذا الوسواس إلى قلوبكم. حصِّنوا أنفسكم ضد وسواسه هذا بالحقائق التالية: أولها ما ذكرتُه لكم الآن؛ الدعاء غاية وليس وسيلة، ليس وسيلة من أجل الحصول على طلب حتى إذا حصلت على طلبك أعرضت ومضيت، وأكثر ما في الأمر أن تقول للذي أعطاك: شكراً لا، دعاء العبد إذ يتجه به إلى الرب عبودية (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ). الحقيقة الثانية: ألا تستعجل الأمور، من الذي قال لك: إن الله لم يستجب؟ ومن هذا الذي يسير وراء رعونته المستعجِلَة فيفسِّرُ الأمور على هواه، أو كما تريده له رعونته أمر غامض، إنني باعتباري واحداً من عباد الله سبحانه وتعالى الموقنين بعبوديتهم له أجزم وأقطع بأن الله قد استجاب، ولا يُشْتَرط ليقيني هذا أن أجد أطياف ذلك تلتمع أمامي اليوم، وما ينبغي أن أجعل من الدليل على يقيني هذا عَجَلة تهفو إليها نفسي. هذا من الخطأ بمكان أيها الإخوة. أمر غامض لا أقول فوجئت به أمتنا العربية الإسلامية بل فوجئ به العالم الإسلامي أجمع، ولكن من الخطأ أن نستبق الأمور ونفسِّرَ الأحداث بما قد يبعث على التشاؤم. الأمر ليس كذلك. هل وفَّيْنا بشروط الدعاء؟ أما الحقيقة الثالثة: فما قد قلت بالأمس، علينا عندما نمد أيدينا وأكفنا بالضراعة إلى الله أن نتذكر شرائط الاستجابة، وأن نعلم أن لاستجابةِ الله الدعاء شرائط، وأن نعود إلى أنفسنا فنتساءل: هل وفَّيْنا بهذه الشرائط؟ المشكلة أيها الإخوة أن الواحد منا لا يدعو لخاصة نفسه، لو أنه كان يدعو لخاصة نفسه لكان الخطب سهلاً، ولكان تحقيق الشروط أمراً هيناً، بدقيقة واحدة أتوب إلى الله وأستغفره من ذنوبي وأعاهده على عدم الرجوع إلى تلك السيئات ثم أدعوه تتحقق الاستجابة. لكن عندما أدعو للأمة، عندما أدعو لمجموعة من الفئات والناس؛ أَنَّى لي بأن أضمن أنهم جميعاً قد تابوا إلى الله؟ وأنهم جميعاً انقادوا لأمر الله عز وجل، هل تحققت شرائط الدعوة في بلادنا كلها - والعراق واحدة من البلاد العربية والإسلامية ندعو الله لها؟ هل تحققت الشرائط؟ الحقيقة الرابعة: هي أن المسلمين أشخاصاً قد يُقتَلون قد يذهبون، ولن يُقْتَل واحد إلا بأجله ولن يرحل واحد من الدنيا إلا عندما يحين حَيْنُه، ولابدَّ أن يرحل إلى الله. أما هذا الدين فلسوف يبقى منتصراً شاء أعداؤه أم أَبوا (إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ) هو ليس انتصاراً للأشخاص، هو انتصار للدين، وصدق الله القائل: (وَاللَّهُ غالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وصدق الله القائل: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) وصدق الله القائل: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وصدق الله القائل: (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنا وَرُسُلِي). آيات كثيرة أيها الإخوة تبين لنا أن انتصار الدين شيء وانتصار الأشخاص شيء. أما أن يُهْزَم هذا الدين كما يحلم كبير الطغاة بل صغيرهم في أمريكا فهذا ما لن يقع، سيغزو هذا الإسلام أرضه ولسوف تشرق شمس الإسلام في مغربه الذي يقبع فيه، نحن واثقون بهذا. ولسوف يعلو الإسلام ولا يُعلى عليه هذه حقيقة ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، ولسوف يعلو الإسلام ولا يُعلى عليه، ولكن هل هذا يستلزم أن يكون الأشخاص هم الأعلون؟ هل هذا يستلزم أن يكون قادة العالم العربي اليوم - هؤلاء الذين ترونهم وتعرفون عنهم الكثير - هل انتصار الإسلام يقتضي أن يكونوا هم الممثلين له ومن ثم هم المتربعين على عرش القيادة والرئاسة؟ لا. صدق الله القائل: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) لكن الأشخاص شيء ودين الله عز وجل شيء آخر، لو مُلِئت الأرض خيانة ولو تحول، فإن دين الله سبقى في منجاة عن هذا كله أبداً، اطمئنوا أيها الإخوة. دين الله أشبه ما يكون بهذه الشمس التي تتلألأ في كبد السماء، قد يتحول الناس كلهم إلى كَنَّاسين يثيرون من غبار الأرض ليتعالى هذا الغبار ليصل إلى الشمس، لكن ما الذي سيحصُل؟ سيتهاوى هذا الغبار ويعود إلى رؤوس هؤلاء الكنَّاسين، وستبقى شمس الإسلام مشرقة مُتَّقِدة تَشِع. دعاء على الأمريكان الطغاة اللهم إنا نسألك بغيرتك على دينك، ونسألك اللهم بسر قولك: (يُرِيدُونَ ليُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمَّ نُورَهُ) أن تطرد هؤلاء الغزاة الذين جاؤوا بخيلائهم وبكبريائهم يحادونك ويكذبون دينك، وقد أعلن كبيرهم سيره نحو القضاء على دينك، تَوَجُّهه إلى اجتثاث الإسلام من بلادك الإسلامية يا رب العالمين، نسألك اللهم بغيرتك على دينك أن تطرد هؤلاء الطغاة ببلاء من عندك يا رب العالمين، نسألك اللهم أن تسلط عليهم جنداً من جنودك تجعلهم بذلك أثراً بعد عين يا رب العالمين. اللهم لا تجعل هذه المصيبة فتنة لعبادك المؤمنين يا رب العالمين، اللهم إنك تعلم وترى الضيق الذي انتاب قلوب عبادك المؤمنين الذين ينتظرون نصرك لدينك، ينتظرون انتصارك لأوليائك، إنك ترى الضيق الذي انتابهم، فنسألك يا أرحم الراحمين، نسألك برحمتك بعبادك المؤمنين أن ترفع هذا الضيق عنهم باستجابتك لدعائنا وتحقيقك لرجائنا، انتصر يا ذا الجلال والإكرام لدينك يا رب العالمين. اللهم إن الطغاة بالأمس الذين أهلكتهم بما أهلكتهم به كانوا أقل طغياناً من الطغاة اليوم، إنهم طغوا وبغوا ولكن في بلدانهم في أقاليمهم أما هؤلاء الطغاة المستكبرين عليك الذين يحادونك، هؤلاء ينثرون طغيانهم في العالم كله، إنهم آلوا على أنفسهم أن يكتسحوا إسلامك، أن يقضوا على دينك، وأنت ترى يا ذا الجلال والإكرام. اللهم لئن كان طغاة أمريكا يعتزون بالقوة التي متعتهم بها؛ فإن عبادك المجاهدين قلة كانوا أم كثرة لا يعتمدون إلا على قوتك، لا يستنزلون النصر إلا من عندك، لا يهتفون إلا باسمك، لا تخذلهم يا رب العالمين، لا تخيب آمالهم يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، فَجِّر النصر من بلاد الإسلام. اللهم مُنزل الكتاب، مُجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزم الطغاة من عبادك أينما كانوا يا رب العالمين: في فلسطين، في العراق، في مشارق الأرض ومغاربها، وأدخل بذلك السرور والفرحة في قلوب عبادك المؤمنين.