في السياسة الخارجية هناك خيارات -بغض النظر عن تقييم مضمونها الأخلاقي والإنساني والديمقراطي-، قد تبدو بمعايير النظر الاستراتيجي متماسكة أو يظهر الخيط الرابط بينها والذي يجعل المقدمات خادمة للنتائج بمنسوب مقدر، وفي اللحظة التي تحدث فيها بعض المتغيرات التي تفسد السيناريوهات المرسومة، فإن الخيارات المصاحبة تسعى إلى أن تجعل مخرجات التخطيط الاستراتيجي تصب تقريبا في نفس الأهداف المرسومة سلفا. لكن في المقابل ثمة خيارات أخرى لا يمكن وصفها إلا بالتخبط والحمق نظرا لتداعياتها الخطيرة على الأمن والاستقرار في المنطقة، بل على مجمل "المكاسب التي حققتها الاستراتيجيات السابقة". مثال التعاطي مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي ظل يمثل المعضلة المزمنة في السياسات الخارجية للدول العظمى، إذ لم تنجح هذه الدول في استثمار لحظة ربيع الشعوب العربية -التي انشغل فيها كل شعب عربي بقضايا حراكه الخاصة- لتحقيق أي تقدم من شأنه تغيير موازين القوى الحاكمة لهذه القضية، ولم تستطع نفس الدول أن تستثمر لحظة الأزمة السورية، ولحظة الارتهان الإيراني بملف التفاوض النووي الإيراني مع الغرب، بل لم تستطع أن تستثمر لحظة تورط حزب الله في الحرب على الأراضي السورية، ولم تستثمر لحظة الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب وتدشين حملة إبادة وإقصاء ضد جماعة الإخوان لتحقيق أي تقدم في ملف السلام. كان الخيار الدولي منذ اندلاع ربيع الشعوب يعتمد الضغط على الكيان الصهيوني لضبط النفس طوال هذه اللحظات وتمنيه بإمكان الضغط الدولي على القيادة الفلسطينية استصدار تنازلات غير مسبوقة تمس بالثوابت الفلسطينية، لكن النتيجة هو أن هذا الهدف تبخر ولم تتحمل القيادة الفلسطينية الضغط الدولي ولجأت إلى الورقة التي تلجأ إليها في هذه الحالات: المصالحة بين فتح وحماس. ولذلك، ما يفسر اليوم التصعيد الإسرائيلي على قطاع غزة، وإن بدا في الظاهر له ارتباط بقضية قتل ثلاث إسرائيليين، إلا أنه في العمق هو تعبير عن حالة استراتيجية إسرائيلية تغيرت بعد أن فشلت الاستراتيجيات الدولية في تحقيق جزء من أحلام الكيان الصهيوني. بلغة واضحة، إن الكيان الصهيوني اليوم يتحدى العالم، ويتحدى أول ما يتحدى الدول الغربية التي طالما استعطفته لضبط النفس دون أن تحقق له شيئا من الوعود التي كانت تلقيها إليه في اللقاءات المكوكية السرية. الكيان الصهيوني اليوم، من خلال عدوانه الشرس على غزة يريد أن يبلغ رسالة إلى العالم مفادها أنه سيتولى بنفسه تدمير قوى المقاومة الفلسطينية، وأنه لن يرتكن إلى الوعود الدولية ولن يستمع إلى نصائح ضبط النفس لأن الأمر يتعلق بمنظومة أمنه الكبرى التي تكسرت باستهداف المقاومة الفلسطينية لقاعدة عسكرية عن طريق البحر وضرب أهداف استراتيجية لم تكن متوقعة كقدرة عسكرية هجومية فلسطينية. المشكلة أن هذا التصعيد الإسرائيلي الخطير ضد غزة، يمكن أن يربك كل الحسابات السابقة التي أخذ تنفيذها على الأرض سنوات، وبالتحديد مع ربيع الشعوب العربية، ويمكن أن يدخل المنطقة في كابوس مخيف لا أحد يمكن أن يتنبأ بمآله. في السابق، وفي اللحظة التي كان الكيان الصهيوني يقرر العدوان على غزة كانت إلى جوارها مصر "المباركية" التي تؤمن العدوان وتحرك آليتها الدبلوماسية والاستخبارتية لتحقيق هدنة بين الطرفين. اليوم، مصر تعيش أوضاعها المتفجرة، ولا يتحمل استقرارها الهش أن تضاف قنبلة هذا العدوان كعنصر تعبئة واصطفاف داخلي، والتيارات الإرهابية التي تتناسل اليوم بقوة في سوريا والعراق واليمن، صارت مرشحة أكثر للتنامي بفعل ما تحدثه المظلومية الفلسطينية والانحياز الدولي لدعم العدوان الصهيوني من إضافة حجج جديدة تستثمر للاستقطاب والتجنيد من الداخل والخارج، ثم إن الدول العربية، بفعل الانقسام، والشعوب العربية بفعل الإنهاك الذي أصيبت به بسبب كلفة الربيع وخريفه، لم تعهد قادرة على إنتاج الضغوط الرتيبة. كل هذه العوامل تدفع المنطقة إلى المجهول بحيث لا يمكن لأحد اليوم أن يتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه. فإذا انضاف إلى ذلك ردة الفعل العميقة المتوقعة من الشعوب العربية، فمعنى ذلك أن هذا العدوان سيساعد في إعادة القضية الفلسطينية إلى جدول اهتماماتها بعد أن تراجعت في سلم الأولويات بسبب انشغالها في السنوات الأخيرة بسؤال الدمقرطة والحرية والعدالة وكرامة الشعب.