تؤكد تطورات الأوضاع في العراقوسوريا أنه كلما تعقدت إيديولوجيا الخطاب القتالي فيها كلما ازدادت مسؤولية المتبصرين من العلماء والدعاة في حماية الشباب في باقي الدول من آلية الاستقطاب التي تتفنن الجماعات المقاتلة هناك في تطويرها والإبداع فيها. وليس من المبالغة القول إن الدور الذي يمكن أن يلعبه المتبصرون من هؤلاء العلماء والدعاة لحل معضلات الاقتتال هناك ربما يضاهي الدور الذي يمكن أن يقوم به المنتظم الدولي لجلب السلام والاستقرار لشعب البلدين والمنطقة برمتها. ويعلم الجميع أن آلة الاقتتال هناك تجد وقودها الأساسي من الشباب الذي يتم استقدامهم من الخارج، بعد عمليات غسل الدماغ بخطابات تتخفى خلف الدين، وتستغل الهشاشة الدينية والفكرية لدى الشباب، كما تستغل حماستهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية ل"تقنعهم" ببديل يضمن لهم المساهمة في تحقيق أحلام إقامة الدولة الإسلامية، والطريق إلى الجنة. مسؤولية العلماء والدعاة واضحة وجلية وضخمة، وتدور حول تجفيف المنابع البشرية للجماعات المقاتلة في العراقوسوريا (وأيضا في باقي مواقع نشاط الإرهابيين)، والتي نجدها تمتد لتخترق النسيج المجتمعي للمغرب و لعدد من دول شمال إفرقيا وفي الخليج، كما تخترق النسيج البشري للجاليات المسلمة في الغرب. وهذا الاختراق سهلته هشاشة الثقافة الدينية لدى الشباب، وكرسه ضعف المجهود التحسيسي الأهلي والرسمي في أوساط الشباب. وإذا كانت الأرقام التي تكشف عنها التقارير الأمريكية بهذا الخصوص تؤكد أن القاعدة البشرية للجماعات المقاتلة تتلقى إمداداتها من 81 دولة، وخاصة دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، فإن التطور "السياسي" الأخير الذي عرفته المنطقة بإعلان الجماعات المقاتلة قيام ما أسموه "الدولة الإسلامية"، ينبئ بتفاقم الهجرات الشبابية إلى جحيم القتال هناك. ففي الوقت الذي يكشف فيه تقرير أمريكي جديد وجود 1500 مغربي (أي أزيد من 12 في المائة !) ضمن 12 ألف مقاتل أجنبي دخلوا سوريا للقتال ضمن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروف ب"داعش"، يعلن هذا التنظيم عن خطوة خطيرة تتعلق بإعلانه عن تأسيس دولة الخلافة الإسلامية، وتسميتها ب"الدولة الإسلامية" دون إضافة العراق والشام وذلك لتصبح "دولة لكل المسلمين في كل العالم"! و تؤكد وكالات الأنباء ومختلف وسائل الإعلام، قول "الدولة الإسلامية" "إنها تريد إلغاء حدود الدول من البحر المتوسط إلى الخليج وإعادة الخلافة للمنطقة". وتوجه خطابا لا يستهدف سوى الاحتياطي الهش من الشباب في تلك الدول بالقول "ننبه المسلمين انه بإعلان الخلافة صار واجبا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة إبراهيم (أبو بكر البغدادي) وتبطل شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات التي يتمدد إليها سلطانه ويصلها جنده" ! ورغم أن هذا الخطاب قد يشكل تهديدا للدول المجاورة، إلا أنه في العمق يهدف إلى تحقيق هدفين استراتيجيين أساسيين يهمان دول الإمداد بالشباب بالخصوص والتي ضمنها المغرب: الهدف الأول، هو تجديد قوة الجذب في المشروع القتالي للجماعات المقاتلة هناك، والذي تحدثت تقارير مختلفة عن وجود توجه لدى المقاتلين للعودة إلى بلدانهم بعد التطورات السياسية والعسكرية التي عرفتها سوريا والتي كانت لصالح نظام الأسد. وتشكل الصيغة المعلنة، دولة الخلافة الإسلامية وبيعة خليفة المسلمين، رهانا قد يضاعف من قوة الإغراء لبقاء هؤلاء المقاتلين و الاستمداد بمقاتلين جددا. الهدف الثاني، يتعلق بخطورة تحول التنظيم الجديد، الذي دخل في صراع مرير مع تنظيم القاعدة الذي انفصل عنه، من الصراع حول اقتسام الموارد البشرية المقاتلة في العراقوسوريا، وكذلك مصادر التمويل والإمداد اللوجستيكي، إلى توسيع مجال النفوذ الجغرافي ليشمل دولا عبر عنها بسعيه إلى "إلغاء حدود الدول من البحر المتوسط إلى الخليج وإعادة الخلافة للمنطقة"، وإذا نجح البريق الإيديولوجي ل"دولة الخلافة" و "بيعة الخليفة" و "وجوب البيعة والطاعة"، لا قدر الله، فإننا قد نجد القابلية للهجرة للقتال في سورياوالعراق تتحول، بسبب "الحاجز الأمني"، إلى مشاريع محلية لإقامة فروع ل"الدولة الإسلامية" المعلنة تمهيدا لإقامة "دولة الخلافة" الواسعة. إن خطورة إعلان "الدولة الإسلامية" ليست مجرد مشروع لتصفية الحساب بين التنظيمات الإرهابية، خاصة القاعدة و"داعش"، بل يتعداه إلى تأطير الشباب في دول "الإمداد بالمقاتلين"، والتي من ضمنها المغرب، من أجل توسيع ذلك المشروع جغرافيا. و إذا كانت خطورة الهجرة إلى القتال يمكن ضبطها والتحكم فيها نسبيا بمقاربات أمنية، باعتبارها تتعلق بحركة للشباب عبر الحدود، فإن خطورة خدمة "الدولة الإسلامية"، بما تعنيه حمولاتها الدينية والإيديولوجية، يجعل المقاربة الأمنية غير كافية، ويجعل لدور العلماء والدعاة والمجتمع المدني عامة، دورا استباقيا استراتيجيا لتجفيف منابع تلك "الدولة" المشؤومة، بتوسيع قدراتهم التأطيرية ورفع الحواجز المفتعلة بينهم وبين الشباب لاعتبارات ضيقة ولحسابات سياسوية مغامرة. وإذا استحضرنا ما كشفت عنه التقارير المختلفة من توسع دائرة هجرات عودة المقاتلين من ساحة القتال هناك إلى أوطانهم، يمكن تصور الخطر الذي ينطوي عليه إعلان تلك "الدولة" المشؤومة كمحور استقطاب فعال لموجة أعمال إرهاب جديدة قد تسعى إلى تحقيق أحلام مجانين "الدولة الإسلامية" في مختلف الدول. إن العلماء والدعاة المتبصرين وحدهم من يستطيع تفنيد الأسس الأيديولوجية التي يتأسس عليها الخطاب القتالي الذي يشكل إيديولوجيا "الدولة الإسلامية" وما شابهها، فهل يخرجون من معتكفاتهم؟ وهل تزال العقبات من أمامهم؟ إنه الرهان الاستراتيجي لمواجهة آلة دمار جديد تتغذى على الجهل بالدين والهشاشة في الثقافة السياسية.