يبدو أن الولاياتالمتحدة مصرة على أن تحقق خرافة مفكرها الصحافي "فوكوياما" نهاية التاريخ، تاريخ العالم ليبدأ تاريخها هي، تاريخ النفوذ والهيمنة الأمريكية بطريقتها المعهودة منذ ظهورها، والتي هي «كل شيء لنا، ولا شيء للآخرين» فنحن السادة، والآخرون، كل الآخرين، عبيد ورعاع لا تصلحهم إلا قيم الخضوع والخنوع طوعا أو كرها. فإن هم أطاعوا فلهم علينا أن نترك كواهلهم مثقلة بما يملكون وما لا يملكون. ما يملكونه هو ما وجدناه بين أيديهم جاهزا ينتظر الأخذ والسفر إلى مقر سيدة الدنيا (أمريكا) ليحفظ من الضياع، ويبقى ذخرا لكل الدنيا، فهو حق مشاع، والدنيا هي أمريكا وأمريكا هي الدنيا ومشاعيته هي أمركته. وما لا يملكونه هو ما ستضع عليه أمريكا يدها بعدهم، وهو في الأصل إرث الأجيال القادمة من أبناء "العبيد"، وهذا يضاعف من شرفهم وشرف أبنائهم وأبناء أبنائهم. فشرف العبد في خدمة سيده. وإن هم رفضوا الطوع والانصياع وأصروا على التمرد والعصيان ضد إرادة "سادتهم" الأمريكان، فإن أمريكا ستصدر أمرها للتاريخ ليتحرك تحت أقدام العصاة ويسير بهم إلى نهايته، وسيحاصرهم الزمان والمكان الجهنميان المخصبان بأنواع رهيبة من أسلحة الدمار الشامل، وعندها لابد للعصاة من الخوف.. ولابد مع الخوف من استنبات قيم الخضوع والخنوع لسيدة الدنيا بلا منازع. هل فعلا سينتهي التاريخ على الصورة التي كانت تحلم بها أمريكا ومازالت، أي على الطريقة التي سار عليها مؤسسوها الأوائل، والتي عبر عنها القرصان الوسيم "جون برتسي" الذي نزل مع أول حملة غازية للقارة الجديدة سنة 1607م، حيث قال: «هؤلاء الهنود.. ليسوا أكثر من مخلوقات خبيثة ينبغي إزالتها.. إن المشكلة التي واجهتنا بشكل مباشر في البداية هو أنه يتوجب تطهير البلاد من البعوض والهنود والأشجار»، وها هو الغزو مستمر على تعبير "تشومسكي" يقود الأمريكان ليس على الهنود الحمر فحسب (هؤلاء المساكين الذين وصلوا منذ عهد بعيد رغما عنهم إلى نهاية تاريخهم)، وإنما على العالم بأسره.. وها هي بداية تاريخ العالم تبدأ من منطقة العالم الإسلامي، وبالضبط من المنطقة العربية، من العراق، بعدما فشلت نسبيا أن تبدأ من أوروبا، لأن هذه الأخيرة عندها قدرة على المدافعة والمغالبة للطرح الأمريكي ولا تقهر إلا بعد انقهار باقي العالم لأمريكا. وقد عبرت عن هذا الأمر الفيلسوفة الفرنسية المعاصرة للجنرال ديغول الأستاذة "سيمون فيل" بقولها: «نحن نعلم جيدا أن أمركة أوروبا، بعد الحرب (العالمية الثانية) خطر شديد جدا، ونحن نعلم تماما ماذا سنخسر إن حدث ذلك... إن أمركة أوروبا تحضر دون شك لأمركة الكرة الأرضية... وهكذا ستخسر الكرة الأرضية ماضيها» وينتهي التاريخ على الطريقة الأمريكية ليبدأ تاريخها هي وحدها، وطبعا معه شيء من ثقافة الغرب القديمة. ولهذا ليس غريبا أن تصر أمريكا على ضرب أرض العراق، حيث أعرق حضارة إنسانية عرفها العالم مشدودة العرى بوثاق رباني هاد جاءت به سلسلة طويلة من الأنبياء. إلا أن الذي فات الحمق الأمريكي الطاغي هو أن التاريخ لا يقبل أن تكون له نهاية على يد مخلوق، وكل من حاول أن ينهيه إلى نقطة ما بطريقة تعسفية/ طريقة أمريكية فإنه سينهي لا محالة إلى نهايته هو، وليس إلى نهاية التاريخ أبدا، وهذا ما نبشر به أمريكا وغير أمريكا من طغاة العالم. لأن الذي يزرع الريح سيحصد العاصفة، والذي يزرع البغضاء سيحصد القطيعة، ومن يزرع المحبة يجني الحياة. ففرعون ذهب وبقي موسى عليه السلام، والقيصر ذهب وبقي عيسى عليه السلام، وأبو جهل ذهب وبقي محمد صلى الله عليه وسلم. وجنكيز خان وبونابارت وهتلر والاستعمار القديم... كلهم ذهبوا لأنهم زرعوا البغضاء فعوقبوا بالقطيعة في الدنيا والآخرة، وبقي أهل الخير والمحبة. ولهذا، فالتاريخ لن ينتهي حسب رغبات أمريكا المجنونة، وإنما الذي سينتهي هو أمريكا ومدنية أمريكا وذكر أمريكا، وبه ستصاب حضارة الغرب بكاملها في صميمها، وستتاح الفرصة لبروز حضارة إنسانية ملائمة، طال شوق الإنسان إليها، وهو الآن على موعد قريب معها. رشيد سودو