فاس العاصمة العلمية للمملكة المغربية، لها شخصية حضارية وعمق تاريخي وتراث متنوع، استطاعت أن تنمو وتزدهر في مجال جغرافي يمتد على مساحة 350 هكتارا تقريبا، تنفرد بكونها من أقدم الحواضر الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، شيدها المولى إدريس سنة 808 ميلادية، وأضحت عاصمة للدولة الإدريسية. وتذكر المصادر التاريخية أن المدينة أضحت خلال القرن 12 الميلادي، قلعة للفكر والثقافة والعلوم خلال العصر الوسيط. واختيرت عاصمة للمرينيين، ونعمت بمنشآت معمارية بديعة بعدما أضحت نقطة جذب للمهاجرين من بلاد الأندلس، وشيدت المدارس والمكتبات، وحظيت المؤسسات العلمية بتحبيس الأوقاف عليها، وبعدها صرف السعديون اهتمامهم إلى تعزيز البنيات الدفاعية، وحين وصل العلويين إلى الحكم، تركز الاهتمام على ميدان العمارة الدفاعية، وأقيمت عدة مبان ذات وظائف ثقافية ودينية. وهكذا اكتسبت فاس عبر تاريخها الطويل تراثا عمرانيا ومعماريا ثريا ومتنوعا، فبادرت المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم، «اليونسكو»، اعترافا منها بهذا الإرث الحضاري والثقافي للمدينة الإدريسية، بتسجيل المجال التاريخي لفاس في لائحة التراث العالمي الإنساني، وذلك سنة 1981. ويجمع المؤرخون على أن العاصمة العلمية للمملكة، استمدت إشعاعها من مختلف المعالم الدينية، سواء المساجد أو المدارس أو الأضرحة والزوايا، وتمثل إبداعات حية تبلور الفن الإسلامي بمعناه الواسع، وتشتمل على كنز فني وثقافي ذي قيمة نادرة نجده غالبا في النحت على الخشب والجبس والحجر والنافورات والأعمدة والأقواس والثريات التقليدية والمخطوطات والكتب وغيرها. وحسب منشورات وكالة التخفيض من الكثافة وإنقاذ فاس، بلغ عدد هذه المباني الدينية خلال العصر الوسيط حوالي 750 بناية. وتراجع هذا العدد اليوم، ليصل إلى 305 معلمة دينية تاريخية، حسب جرد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لهذه السنة، ويوجد الآن 120 معلمة دينية مغلقة حاليا، وهو ما يعني أن 40 بالمائة من المعالم الدينية التاريخية للعاصمة العلمية للمملكة مغلقة اليوم. وبعيدا عن لغة الأرقام، المتأمل اليوم في واقع ما بقي من المعالم الدينية، يصطدم بواقع مؤسف يثير الحسرة والألم، بعدما فقدت المعالم الدينية جزءا من تراثها، وتعرضت للنهب والسرقة من جهة، وللإهمال واللامبالاة من جهة أخرى، ليس هذا فقط، بل نجد أن أول مسجد بني بالعاصمة العلمية - كما تقول الوزارة الوصية - قد اندثر، بينما تكشف «التجديد» اليوم أن الجزء الأكبر منه مازال قائما! ويثار بقوة موضوع الإدارج في عداد الآثار، عند الحديث عن المعالم الدينية التاريخية، ويؤطر عملية الإدارج قانون يعود إلى سنة 1986، وتضم لائحة المباني التاريخية المرتبة في عداد الآثار بفاس، 39 معلمة، منها بعض المباني الدينية المعدودة على رؤوس الأصابع، يعود تاريخ تصنيفها إلى عهد المقيم العام الجنرال ليوطي زمن الحماية. «التجديد» فتحت تحقيقا في موضوع المباني العلمية التاريخية للعاصمة العلمية لفاس، بحثا عن جواب للسؤال المقلق: «من يتحمل مسؤولية الوضع الذي تعيشه هذه المعالم اليوم؟»، ولماذا لا يتم تصنيف المعالم الدينية في عداد الآثار لتصبح الدولة ملزمة بترميمها وصيانتها؟ومن القطاع الوصي عن هذا التراث التاريخي؟ وأي مقاربة كفيلة بإعادة الاعتبار لتراث الأمة؟ وهل هناك رؤية لحفظ هذا التراث؟. الجامع الموجود المندثر ! «جامع الأنوار» أو «الأشياخ»، آخر معلمة دينية تاريخية زارتها «التجديد» ضمن جولتها الميدانية للمدينة العتيقة لفاس، تقول عنه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في كتاب صدر عنها سنة 2011، «جامع الأشياخ الذي شيد داخل عدوة الأندلس، وجامع الأشراف الذي بني في عدوة القرويين، بكل منهما كانت تقام صلاة الجمعة زمن الأدارسة.. وإذا كان الجامعان الأولان قد اندثرا، فإن التنقيبات الأثرية كشفت عما تغطيه الأتربة من بقاياهما وقامت بدراستها». هو إذن حسب وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، «مسجد اندثر»، لكننا وجدنا جزءا منه قائم الجدران، يتألف من قاعة للصلاة تضم محرابا وبها بلاط واحد، فما قصة هذا المسجد إذن؟ جامع «الأشياخ»، أو مسجد «الأنوار»، شيده المولى ادريس الثاني، وذكر المؤلف أبو عبيد البكري أن النواة الأولى للمسجد تم وضعها سنة 807م، وبذلك يكون أول مسجد بني بفاس، ويرى المؤرخ عبد الهادي التازي، في كتابه «جامع القرويين»، أن الفضل يعود إلى البكري في إعطائنا فكرة عن مسجد «الأشياخ». ويروي المؤرخون أن الجامع احتضن صلاة الجمعة وخطبتها طوال الفترة الإدريسية، قبل أن يقرر الأمير الشيعي حامد بن حمداني، إنهاء إقامة صلاة الجمعة بهذا المسجد ونقل الخطبة إلى مسجد الأندلس. مسجد «الأنوار» يوجد بأعلى «عقبة الصفاح» ب»رحبة الدجاج» عند بداية زنقة سيدي بوجيدة، بابه الرئيسي كما عاينته «التجديد»، موصد جهة «رحبة الدجاج»، تتراكم أمامه أقفاص الدجاج والأزبال، ولا أحد يدرك من الباعة أن الباب هذا يقود إلى أول مسجد شيد بفاس، كان علينا أن نسير في اتجاه زنقة سيدي بوجيدة، لنجد بابا تقود إلى مقبرة الأدارسة، وبالجهة اليمنى وجدنا بابا خشبيا يقود إلى ساحة مجاورة للجامع، الداخل إليها يجد أمامه الباب الرئيسي الذي يفتح على «رحبة الدجاج»، وعلى يساره يجد بابا صغيرا مقوسا يفضي إلى فناء الجامع، وتبلغ مساحته حوالي 40 مترا مربعا، واللافت للانتباه أن الجامع في وضعه الحالي لا يحتوي نقوشا أو قطعا أثرية، ولا يوجد أي أثر لمكانها للقول بفرضية نهبها وسرقتها. وبأقصى يمين جدار القبلة، وجدنا بابا يقود إلى ساحة صغيرة بها أشجار الزيتون وشجرتان للتوت، وتحول المكان بدوره إلى «خربة» تجمع جل أنواع القاذورات التي يلقى بها من خارج السور. وقف مرافقنا المرشد السياحي، مصدوما وهو يتأمل محراب المسجد وبيت الصلاة، ممتلئين بأكوام الأوساخ، ورائحة كريهة تفوح من المسجد، وبدورها الساحة التي يرجح أنها كانت امتدادا للمسجد، امتلأت عن آخرها بالأوساخ، منها دجاج ميت قذف به الباعة من خارج السور باتجاه الجامع، ويقر مرافقنا بأنه يزوره لأول مرة، وهو الذي خبر المدينة العتيقة ودروبها وأزقتها، وظل لسنوات يحدث السياح عن وجود جامع «الأنوار» بالمدينة العتيقة، كأول مسجد بني بالمدينة. وبالرغم من أن الشارات التي وضعت بمختلف المسارات السياحية تشير إلى وجود جامع «الأنوار»، وهي الشارات التي من المفروض أن تقود الزائر إلى المعالم التاريخية التي تشير إليها، إلا أن شارة جامع «الأنوار» تقودنا إلى ساحة «رحبة الدجاج»، دون أن يجد الزائر أي إشارة تشير إلى مكانه بالضبط، كما هو الحال بالنسبة لباقي المعالم. التهرب من المسؤولية التقينا محسن الإدريسي، مفتش المباني التاريخية بمدينة فاس، سألناه عن المسجد وحاله الذي يرثى له، فاكتفى بالقول «جامع الأنوار وضعه معقد، المعلمة محافظ عليها كفضاء، أصبحت الآن موقعا أثريا»، هل هي فعلا مدرجة في عداد الآثار؟، نسأله، «لا لا، جئنا وجدناها كما هي الآن»، أما بخصوص الوضع الذي يعرفه الجامع الآن، حيث تحول إلى مزبلة، فقد قال المفتش: «على أي حال هو تحت وصاية وزارة الأوقاف ولا علاقة لنا به، ونحن غير مسؤولين عن نظافة المعالم التاريخية»، في إشارة إلى مسؤولية القائمين على الشأن المحلي بفاس، وهو ما ذهب إليه أيضا مسؤول في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، «أصحاب الشأن المحلي يتحملون المسؤولية، إن أرادوا أن يحيطوه بعناية خاصة سيفعلون، ليبرز فعلا كأول مسجد بني في فاس»، يقول المسؤول الذي رفض ذكر اسمه، وهو بذلك يؤكد وجود الجامع بخلاف وثائق الوزارة التي تتحدث عن اندثاره. المسؤول ذاته اعتبر في حديث ل»التجديد»، أن الجامع «لا يدخل في عداد المساجد التي تم جردها. فمن جهتنا لم يعد مسجدا قائما، بقيت بعض معالمه وليس متكامل البنيان، ثم أصبحت الساحة المجاورة له مدفنا للأدارسة، وأعتقد أنه منذ قرون لم تعد تقام به الصلوات»، يضيف المصدر ذاته، «فوظيفته كمسجد معطلة منذ زمان غابر ونحن غير مسؤولين عنه اليوم». الجوهرة المفقودة توجد بفاس العديد من المدارس العلمية العتيقة، تتوفر جلها على قاعة للصلاة والدراسة، ومراحيض وأفنية للتجول والمذاكرة وصحن يتوسط المدرسة، إضافة إلى غرفة تأوي الطلبة، وإذا استثنينا مدارس «البوعنانية» و»العطارين» و»الشراطين»، فإن المدارس الأخرى توجد في حالة كارثية، نهبت وسرقت أغلب قطعها الأثرية، ومنها ما أغلق منذ عشرات السنين. فوجئ مرافقنا المرشد السياحي حين وجدنا أن الباب الرئيسي لمدرسة «المصباحية» مفتوح، فقد كان مغلقا منذ عقدين من الزمن - يقول المرافق- وبابها الرئيسي تتكدس أمامه الأوساخ والأزبال، بينما يوجد باب آخر، ربما يقود إلى المراحيض ومنها إلى صحن الجامع، كانت ترابط أمامه دابتان تستعمل لنقل البضائع داخل أزقة المدينة. تحدثنا مع رجل الأمن الخاص، متوسلين له أن يسمح لنا بولوج المدرسة، فكان الجواب صارما وواضحا، «لدي تعليمات بمنع دخول أي شخص، إلا المهندس الذي يشتغل على إعداد الدراسات لتشخيص وضعية الجامع». وبعد يومين من الاتصالات، حصلنا على إذن بدخول المدرسة، مما سمح لنا بالوقوف على معلمة تاريخية فريدة في البناء والعمران، لكنها فقدت أغلب قطعها الأثرية، بسبب ما تعرضت له من نهب، ثم بسقوط بعض جدرانها وقبة قاعة الدرس والصلاة. تحولت المدرسة اليوم إلى «خربة» منسية مدعمة بالخشب والحديد بعدما أصبحت في عداد الدور الآيلة للسقوط. جل أسوارها عارية بعد أن سرقت جميع محتوياتها من نقوش وخشب ورخام وزليج ولوحات جبصية بديعة الرسم والزخرفة، وحدها النقوش المرتفعة استعصت على يد الإنسان وهي قليلة بالمقارنة مع ما سرق. المدرسة اليوم أصبحت ملاذا للفئران والأفاعي، كان رجل الأمن الخاص الذي باشر مهمة الحراسة بعد فتحها قبل أسابيع، يذكرنا كل مرة بوجود الأفاعي حتى نأخذ الحيطة والحذر، خصوصا في الطابقين العلويين، حيث غرف الطلبة. ولم تسلم من السرقة إلا «بلية» من الرخام، لأنها ثقيلة الحجم. «البلية» هي قطعة رخامية كبيرة، جلبها السلطان أبو الحسن المريني من ألميرية الإسبانية، وهي من الرخام الأبيض، وزنها مائة وثلاثة وأربعون قنطاراً، وسيقت من ألميرية إلى مدينة العرائش، إلى أن طلعت بوادي قصر عبد الكريم عبر وادي سبو، ثم وصلت إلى ملتقى وادي فاس، وجرها الناس إلى مدرسة «الصهريج» بعدوة الأندلس، ثم نقلت منها بعد ذلك بأعوام إلى المدرسة «المصباحية»، والتي ستعرف فيما بعد بمدرسة «الرخام» نسبة إلى هذه البلية العظيمة والفاخرة، وهي الآن بوسط صحن المدرسة. المدرسة التي تحيط بجامع القرويين، تم بناؤها سنة 1346 ميلادية في عهد السلطان أبي الحسن المريني، وتميزت عمارة هذه المدرسة بالمرمر الأبيض الذي جلب من الأندلس. أما الشكل المعماري العام لهذه المدارس فيتميز بوجود صحن واسع مستطيل الشكل يحيط بقاعات الدرس والصلاة، وفي الطبقات العليا للمدرسة توجد غرف إقامة الطلبة. ويتميز معمار هذه المدارس بأقواسها التي يحكى أنها كانت جميلة، ومحملة على ساريات منقوشة بالرخام، لم تعد قائمة اليوم، كانت تكتب على جنباتها آيات من القرآن الكريم. أغلقت المدرسة منذ خمسينيات القرن الماضي، وظلت على حالها إلى أن أمر الملك الراحل الحسن الثاني بترميمها، وحين فتحت وجدت جل قطعها الأثرية منهوبة.تتميز المدرسة بمدخلها الفريد، الذي يفضي إلى قاعة الدرس والصلاة، ويحتوي على تركيبة فريدة للمعمار الديني المريني، فهناك قوسان توأمان يرتكزان على ثلاث أعمدة من الرخام، تشير البطاقة التعريفية المثبتة بجدار القرويين إلى أنه لم يبق من الأعمدة الرخامية إلا واحد، والحال أننا لم نجد أي عمود من الرخام، وهو ما يفسر أن عمودين من الرخام نهبا قبل فتح المدرسة في التسعينيات، بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، وبعد وفاته توقفت الأشغال، ثم عادت المدرسة لتغلق من جديد، ومنذ ذلك الوقت، تعرضت المدرسة لعمليات متكررة من النهب والسرقة لما تبقى من القطع الأثرية، منها قطع جبصية منقوشة أعيد ترميمها منتصف التسعينات، ولا وجود لها اليوم بفناء المدرسة. «السباعيين» المنهوبة مدرسة «السباعيين» التي شيدها السلطان أبو الحسن المريني، بين سنتي 1321 و1323 ميلادية، نهبت أغلب محتوياتها، وذكر رجل عجوز يجاور منزله المدرسة، أنه منذ حوالي 42 سنة توقفت المدرسة عن أداء أدوارها الوظيفية المتمثلة في إيواء الطلبة، ويحكي العجوز الذي تجاوز عقده الثامن، أنه لازال يتذكر عصرها الزاهر، حين كانت تستقبل الطلبة وكانوا يمرون من أمام باب منزله قادمين أو متوجهين إلى جامع القرويين لتلقي الدروس. تركناه أمام الباب الحديدي للمدرسة الذي وضع بدل بابها الخشبي الأثري، وهو يتحدث بألم وحسرة عن وضعها بعدما نهبت عن آخرها. وبالرغم من منعنا من دخول مدرسة «السباعيين»، تمكنا من الحصول على صور بطرق خاصة أتاحت لنا استكشاف وضع المدرسة، والوقوف على حقيقة النهب والسرقة الذي تعرضت له.«السباعين» ذات شكل مستطيل تضم فناء مركزيا تنتظم حوله الأروقة والغرف الموزعة على البناء الأرضي وعلى الطابق العلوي. وبينما يذكر المؤرخون أن نافورة من الرخام مزينة بنقوش كانت تتوسط الفناء المركزي، وتزود بالماء حوضا صغيرا، سمحت لنا الرؤية الفوقية للمدرسة من الكشف عن أن صحنها لم يعد يحتوي على أية نافورة، وهو ما يرجح فرضية سرقتها كما وقع لعدد من القطع الأثرية التي وجدت تباع بأحد متاحف العاصمة البريطانية، وكان جليا أن لوحات نقوش الأبواب والنوافذ الخشبية للمدرسة نهبت، كما يظهر أن جل الأفاريز الخشبية والجبصية لم تعد في مكانها، ونفس الشيء بالنسبة للقطع الجبصية المنقوشة وقطع الزليج، كما أن معظم بناياتها متداعية وتوشك على السقوط. وقد أصر السكان المجاورون للمدرسة على معاينتنا لجدران بيوتهم المتماسة مع جدران المدرسة، لكونهم يخشون من انهيار منازلهم بسبب تسرب الماء إليها من جهة المدرسة.أما مدرسة «الصهريج»، والتي تعتبر «السباعيين» توأمها، وأسست بجوار جامع الأندلس سنة 1321م، على يد السلطان أبي الحسن، فهي مغلقة الآن في أفق ترميمها، ويظهر من خلال معاينتها من قبتها الشرقية، بعد تعذر دخولها أيضا، توفرها على نقوش بديعة غاية في الجمال والدقة، وأغلبها لازال موجودا، ويتوسطها صهريج ماء وبها العديد من الغرف التي كانت تؤوي الطلبة، والمرافق الصحية وقاعة للصلاة. ويذكر المؤرخون أن مصاريف بنائها تُجاوز 100 ألف قطعة ذهبية. ومن بين المدارس التي تكشف عن طمس جزء من تراثنا، نجد المدرسة «المحمدية»، التي بناها محمد الخامس، وكانت تؤوي أيضا طلبة القرويين، وجدناها في حال يرثى له، خصوصا بالجهة اليمنى حيث توجد بعض غرف الطلبة، وهي الغرف التي تحولت وظيفتها من إيواء طلبة العلم إلى تعلم فنون الحلاقة والتجميل، أما الدرج المؤدية إلى مراحيض المدرسة فقد امتلأت عن آخرها بالأوساخ والقاذورات، وكان جليا أن بعض النقوش أهملت وضاعت وبقيت آثارها فقط. الترميم ومآل الخصوصيات بينما قال المفتش العام للمباني التاريخية، «المفروض أن جميع التدخلات تراعي الحفاظ على التراث التاريخي للمباني الأثرية، حتى لا يكون هناك تقصير فيما يخص العناية بالخصائص المعمارية والفنية والتي لها قيمة كبرى ومتفردة»، توقفت «التجديد» في زيارتها لعدد من المدارس، خصوصا تلك التي أعيد فتحها بعد الترميم والإصلاح، على تعرض عدد من الخصوصيات التاريخية للمباني التاريخية الدينية العلمية، من أبواب ونوافذ ولوحات ونقوش ورسوم، للضياع. ويختفي بعضها أو يغير شكله التراثي خلال عمليات الترميم، بسبب تعويضه ب»تجهيزات» عصرية مغلفة بطابع تقليدي، وتحدث البعض عن أن هذه الآثار تتعرض للنهب في المدينة العتيقة خلال مراحل الترميم. من جهة أخرى، أكد المسؤول في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الذي رفض ذكر اسمه، أن فروع المعالم الدينية بفاس، توقفت بها الوظيفة التعليمية وصارت معلمة حضارية سياحية كمدرسة «العطارين» مثلا، والتي أصبحت وجهة للسياح ولم تعد منذ سنوات تستقبل الطلبة، ويرى المتحدث أن «حماية المعالم الدينية مسؤولية ومهمة دقيقة وشاقة، نظرا لتقادم البنايات منذ قرون»، وقال «ينبغي أن تتضافر الجهود بين عدة أطراف، في طليعتها وزارة الأوقاف ووزارة الثقافة ووزارة الداخلية والقائمون على الشأن المحلي». وذكر المسؤول ذاته، أن وزارة الأوقاف تنخرط في الحماية والعناية بهذه الآثار من خلال عدة مبادرات، منها «افتحاص جميع البنايات من طرف مهندسين متخصصين»، و»الدخول في إصلاح العديد من البنايات»، ثم «المساهمة في برنامج تأهيل المدينة العتيقة الذي تشرف عليه وكالة التنمية ورد الاعتبار لمدينة فاس، والذي عرف توقيع اتفاقية في هذا الشأن قبل أشهر». المصدر المسؤول، تحدث عن عوائق تواجه الوزارة، منها «تراكم البنيان داخل المدينة العتيقة»، يشرح المتحدث، «بمعنى أنه يمكن أن تكون بناية دينية لا تعرف مشكلا في نفسها، وإنما تعرفه من خلال الجوار، أي أن إحدى البنايات المجاورة تعرف مشكلا أو مهددة بالانهيار»، أما العائق الثاني فيتمثل في «وجود صعوبات تحديد الملكيات بالنسبة للمباني المجاورة للمعالم الدينية». تدهور المراحيض تندرج دور الوضوء التقليدية، ضمن التراث الثقافي والديني للحاضرة الإدريسية، وارتبطت عضويا بالمساجد التي كانت جميعها مجهزة بمرافق للوضوء، وتستعمل أيضا كسقايات عمومية لزوار المدينة العتيقة أساسا، وتواجه العديد من دور الوضوء حالة تدهور متقدمة، وتعاني أغلبها الإهمال وغياب أبسط شروط النظافة، يقول مرافقنا المرشد السياحي، «نستحيي من وضعية المراحيض التي لا تشرف المدينة العتيقة لفاس وتاريخها العريق»، ولفت المرشد الانتباه إلى أن أغلب هذه المراحيض فقد معماره التقليدي، خصوصا تلك التي صنعت من الرخام، واليوم في إطار الشراكة مع البنك الدولي، لترميم حوالي عشرة من دور الوضوء التقليدية، وذلك على مدى العقد الأخير، حافظت هذه المراحيض على وظيفتها لكن معمارها الأصيل استبدل بمعمار عصري، كما هو الحال أيضا بالنسبة لمراحيض مدرستي «الشراطين» و»العطارين». وعاينت «التجديد» وجود قطع رخامية انتزعت من المراحيض بعد عملية الترميم، وتم تعويضها بآليات تقليدية، وشاهدنا رخامات رفقة معدات مقاول البناء، بالإضافة إلى أفاريز من الخشب، يحتمل أنها انتزعت من مكانها وعوضت بقطع خشبية عصرية.وهمت أشغال ترميم دور الوضوء، التي كلفت مبلغ مليوني درهم، تقوية دعائم الدور وتجديد قنوات تصريف المياه وتغطية السطوح والجدران بالزليج التقليدي، وارتبط عدد دور الوضوء بوتيرة بناء وتوسيع المساجد، وتقول وكالة إنقاد فاس أن عدد دور الوضوء خلال العصور الوسطى بلغ حوالي 100 وحدة.