اختارت مدينة فاس، باعتبارها من أقدم المدن المغربية، بل إنها كانت عاصمة البلد منذ الأدارسة، أن تخصّص لمجال العلم والمعرفة كل ما يلزم.. لذلك ظلت تحدث في كل حي من أحيائها القديمة مدرسة تحتضن طلبة العلم، وتلقن فيها العلوم الشرعية. ومن تم اشتهرت فاس عند المؤرخين المغاربة على أنها مدينة المدارس العتيقة التي كان يفوق عددها 200 مدرسة، حسب بعض الروايات التاريخية. وظلت جامعة القرويين، التي أسّستها فاطمة الفهرية، مَعلمة ومنارة للتربية والتعليم باعتبارها أقدَم جامعة إسلامية في التاريخ، ومركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني لقرابة الألف سنة. وبعد أن وسعها أبو يوسف المريني صار جامعها يستوعب 22000 مُصَلّ. كما صار يُدخَل إليه من 17 بابا، منها بابان لدخول النساء. وكان هذا الجامع الفريد في بنائه وهندسته يضاء في عصوره الأولى ب509 مصابيح قائما فوق قواعد قد يزيد وزنها على 700 كيلوغراما.. غير أنّ فاس لم تكتف بهذه المعلمة الفكرية والثقافية، بل أضافت إليها عددا من المؤسّسات التعليمية التي اكتسبت شهرة ليس في فاس وحدها، ولكنْ في كل البلاد الإسلامية، كما هو الشأن مع المدرسة «البوعنانية»، التي أقيمت في وسط المدينة العتيقة على عهد السلطان أبو عنان المريني، سنة 1355 ميلادية. وتعَدّ أجمل المدارس عمارة وأفسحها مساحة.. وغيرَ بعيد عن «جامعة القرويين» الشّهيرة، وفي حي العطارين توجد مدرسة «العطارين»، التي يصفها أهل المدينة بأنها -إلى جانب «المدرسة البوعنانية»- تحفة العمارة والهندسة في فاس.. لذلك لا تزال، بفضل عمليات الترميم المُتعدّدة التي أجريت لبناياتها، تحافظ على طابعها المعماريّ الأصيل، رغم أنّ تاريخ بنائها يعود إلى القرن الثاني الميلادي. ولا تخلو الحواري والأزقّة الضيّقة للمدينة القديمة من مدارس أخرى كان يُحصّل فيها الطلبة، الوافدون من كل مناطق المغرب والغرب الإسلامي، العلوم، كمدرسة الصّابرين، التي بناها الأمير المرابطي ومؤسس الدول المرابطية يوسف بنتاشفين، ومدرسة اللبّادين ومدرسة الشراطين ومدرسة السبعين، نسبة إلى لقراءات السبع للقرآن التي كانت تُدرَّس فيها.. إلى جانب مدرسة الوادي ومدرسة الصّفارين، التي تعَدّ أقدمَ المدارس التي أنشئت في المغرب في عهد الدولة المرينية. وتعود أغلب المدارس التي أقيمت في مدينة فاس إلى زمن حكم الدولة المرينية، التي شهدت المدينة في عهدها ازدهاراً ثقافيا وعلميا كبيرا.. وتتميز هذه المدارس بمعمارها الأندلسيّ المغربي، وبالنقوش والزّخارف البديعة التي تزيّن جدرانها وأبوابها وصحونها، المبلطة بالرّخام الذي كان بعضه يُستقدَم من الأندلس، ولوحات الفسيفساء الملونة ونقوش الخط العربي.. وتضمّ أغلب هذه المدارس مساجدَ يقصدها الطلبة المقيمون داخلها أو من أهل الحيّ المجاور لها، كما أنها تضمّ مكتبات علمية غنية بالمخطوطات التاريخية، إلى جانب قاعات للدروس ومكان إقامة للطلبة، وأخرى للمُعلّمين. لكنّ العديد من هذه المدارس العتيقة التاريخية أضحت في حاجة ماسّة إلى عمليات ترميم بسبب تآكل بنيانها، ورغم بدء عملية إصلاح هذه المدارس وترميمها، فإنّ العديد منها ما يزال مغلقاً بسبب تداعي بنيانه. وظلت هذه المدارس العتيقة في مدينة فاس تلعب دورا تجاوز الجانب الثقافي إلى ما هو اجتماعيّ، من خلال إيوائها لآلاف الطلبة، الذين قدِموا إلى فاس من حواضر وقرى مغربية بعيدة طلبا للعلم. كما أنها أسهمت -إلى جانب جامعة القرويين- في صياغة هوية مدينة فاس كعاصمة علمية وثقافية ليس للمغرب فقط، بل للغرب الإسلاميّ كله. وكانت تدرس في هذه المدارس العلوم الابتدائية، بدءا من القرآن والكتابة والقراءة، إلى مبادئ الحساب وغيرها، قبل الالتحاق بالجامعة بعد ذلك، حيث كانت مدة الدراسة في جامعة القرويين، مثلا، تستغرق بين خمسة أعوام و15 عاما.. وكان الطلاب يختارون، بمحض إرادتهم، أساتذتهم، كلٌّ حسب اختصاصه في مادة أو أكثر. وبفضل هذه المعالم الثقافية، اشتهرت فاس بعدد من علمائها في شتى المجالات.. وهكذا أنجبت مدارس فاس أبا عمران الفاسي، فقيه أهل القيروان في وقته، «أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان (الصفحة غير موجودة)» وأبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان، الشهير «ابن البنا» بابن البناء، وهو أشهر رياضيّ في عصره، «أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ» وأبا بكر محمد بن يحيى بن الصائغ، الشهير «ابن باجة» بابن باجة.. وكان ممن نبغوا في علوم كثيرة، منها اللغة العربية والطب، وكان قد هاجر من الأندلس وتوفي في فاس. ومن العلماء الذين أقاموا في فاس ودرسوا في جامعتها «ابن خلدون» ابن خلدون، المؤرّخ ومؤسس علم الاجتماع، «لسان الدين بن الخطيب» ولسان الدين بن الخطيب «ابن العربي الحكيم (الصفحة غير موجودة)» وابن العربي الحكيم و»ابن مرزوق.