دعا الدكتور العلامة أحمد الريسوني الفقهاء إلى ما أسماه «الانتقال من المدارسة إلى الممارسة»، مشيرا في محاضرة فكرية ألقاها خلال الملتقى الوطني التاسع لشبيبة العدالة والتنمية حول «التجديد الفقهي وإشكالات الواقع المعاصر» إلى أن الكثير من مستجدات العصر تقتضي أن يكون هؤلاء الفقهاء في صلبها ويقولوا فيها آراءهم، مثل حكم المظاهرات وغيرها. وأضاف أن الصحابة كانوا فقهاء، لكن أيضا كانوا يخوضون في أمور السوق وغيرها، ولابد لعلمائنا أن ينخرطوا أكثر فأكثر في الحياة، بدل أن يبقى بعضهم «يأكلون الطعام و لا يمشون في الأسواق» يضيف الفقيه المقاصدي. ونوه الريسوني بما عرفه المجال المالي من تجديد فقهي في الآونة الأخيرة، موضحا أن الفقهاء اضطروا إلى الخوض فيه واستنباط أحكام جديدة، وقد مثل ذلك مجالا للممارسة والاجتهاد الحقيقي يتناسب مع ما عرفه المجتمع من تغير وتطور. وأضاف العلامة «أن ما يعرقل عملية تجديد الفقه هو تبعية بعض الفقهاء للدولة الوطنية التي يعيشون فيها، موضحا أنه «في المغرب دائما يقال لنا هناك أمير المؤمنين.. نعم هناك أمير المؤمنين، لكن هذا الأخير لم يغلق فم أحد»، مضيفا: «أقول دائما أن العالم إذا أصبح تابعا لغيره في علمه فقد زهقت روحه العلمية، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقد تودع منه»، هذه أمور بسيطة لا تحدي فيها ولا نزعة ثورية، فسلطة العالم هي أدلته، والدليل الشرعي فوق الجميع، وهذا ما يصطلح عليه الآن بدولة الحق والقانون، ولا يمكن أن يكون لنا فقه سليم كامل متحرر يؤدي وظيفته كاملة ما لم يتحرر علماؤنا من التبعية في علمهم على الأقل». وتأسف الريسوني لمعاناة الفقه الإسلامي مما يسميه أهل السياسة ب»الخطوط الحمراء»، وما دام هناك خط أحمر واحد، فالفقه الإسلامي سيكون معاقا ولن يؤدي وظيفته، مشيرا أنه ليس هناك خط أحمر في العلم لكن معظم الفقهاء الآن يؤمنون بالخطوط الحمراء، و الخطوط الحمراء بالدرجة الأولى هي كل ما يتعلق بالحكم والحكومات والأمراء. وأضاف أن «هناك قضايا لم يتكلم فيها أحد، صحيح أن الربيع العربي قلص من هذه الخطوط لكن لم يلغها تماماً»، وطالب الدكتور من الطلبة الحاضرين المتخصصين في الفقه أن يتجاوزوا هذه الخطوط، مثيرا قضايا ترتبط بأمور كبرى لا فتاوى فيها من قبيل أسلحة الدمار الشامل ومواثيق الأممالمتحدة. ومهد الدكتور الريسوني لمداخلته بتوضيح معنى الفقه، والذي عرفه بأنه فهم الدين ومعانيه ودلالاته و إشاراته وأحكامه بالمعنى العام للفقه. وكل تفقه في العلوم الشرعية من أصول أو عقيدة وشريعة هو تفقه في الدين بالمعنى العام، والفقه بالمعنى الاصطلاحي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، والفقه هنا ينحصر في الأحكام التشريعية العملية التي هي إما الإباحة أو التحريم أو الكراهة أو الندب أو الوجوب، والتفقه يحتاج إلى تدبر وتفكر؛ فالدين الإسلامي ليس مجرد شيء نتلقاه كما نتلقى الطعام والملابس، بل نطبق تعاليمه، يوضح الريسوني. وأضاف الريسوني أن التجديد قضية مجمع عليها لدى علماء الإسلام، فالدين يجدد ويتجدد؛ إذ يحتاج التجديد إلى عمل فكري وعقلي أيضا، وكما هناك فقهاء متخصصون هناك فقه لكل مسلم، لكن كل بقدر استطاعته، فالتفقه في الدين واجب ومطلب شرعي قبل العمل. إذن أول الواجبات العلم قبل العمل والبخاري قال: العلم قبل العمل. وأشار أن التفقه ليس مجرد تفلسف و نظر تأملي فقط بل هذا التفقه في الدين يحدد أحكام الدين، و معنى هذا أن العقل البشري يصبح شريكا في إنتاج الدين. وأكد الريسوني أن هذا الفهم يستلزم التفطن له والإمعان فيه، وهذا تشريف من أعظم وجوه التشريف للكائن البشري بصفة عامة وللمؤمن المتفقه بصفة خاصة. فالتجديد نوع من الوحي؛ بحيث أنه يقوم بوظيفة الأنبياء بعد انقطاع الوحي، فكثير من الأحكام أنيطت بأمانات الفقهاء، كما قال الطاهر بن عاشور أن من أسباب وجود الاجتهاد في الإسلام هذا يعطي جانبا من الاهتمام لعبادة يجب الانتباه إليها وهي عبادة التفكر والنظر. وزاد الريسوني أن الفقه الإسلامي يحتاج إلى تجديد، لكن من باب الإنصاف، نقول إن التجديد عاد إلى الواقع منذ حوالي قرن ونصف ابتداء من صدور مجلة الأحكام العدلية، وعلى من يريد الاطلاع على مسار التجديد الفعلي والقوي للفقه الإسلامي الرجوع إلى هذه المجلة وآثارها فيما بعد، وهي التي كانت لحظة وعي فارقة في تاريخ الفقه الإسلامي الحديث وقد جمعت ثلاثة أمور، وهي أولا تقنين الفقه الإسلامي، والذي أصبح الآن مجمع عليها إلا في بعض الدول كالسعودية، والتقنين يعني صياغة الفقه صياغة تشبه صياغة القانون، والتي تسمى في الوقت الراهن بالقانون المدني، وقد انقسم العلماء بين من يرى ضرورة تقنين الشريعة وبين من يرى، خاصة في السعودية، أن تقنين الفقه هو طريقة لتنحية الشريعة، بل أقول إنها هي طريقة لتطبيق الشريعة. أما الأمر الثاني أن المدونة لم تكن عملا فقهيا فقط، بل أصبحت نافذة واجبة التطبيق حيث وضعت للتنفيذ أمام القضاء للدولة العثمانية. ثالثا أن المجلة صُدًرت بقواعد فقهية وهي معروفة باسم قواعد المجلة وعددها 99 قاعدة مستخرجة من المذهب الحنفي، و هي وإن كانت قواعد حنفية لكن أغلبها مشترك مع باقي المذاهب، وهذه القواعد وضعها في صدارة المجلة فتحت عهدا جديدا للتجديد، وأصبحت تخصصا وعلما ناضجا بل تدرس في جامعات كمناهج خاصة في الفقه. من جهة ثانية، أشار الريسوني إلى أن آخر ما وصلت إليه القواعد هي الموسوعة التي عمل عليها رفقة الدكتور محمد الروكي بعنوان «معلمة القواعد الفقهية والأصولية» وهي أرقى عمل في التقعيد الفقهي باعتباره وجها من وجوه التجديد و آلياته، وهي في 41 مجلد، من مميزاتها أنها أضافت جديدا هو القواعد الأصولية؛ حيث وصلت إلى أزيد من 500 قاعدة أصولية. وأضاف أنه لا يمكن اليوم أن تخلو فتوى من قاعدة من القواعد الفقهية، ولأول مرة تتضمن قواعد خاصة في المقاصد، وهذا كله تجديد وهذا العصر هو عصر المقاصد و القواعد بامتياز، لأن المقاصد هي رافد من روافد التجديد في الفقه وقد عرفت طفرة في هذا العصر لكن هذه المرة هذه الطفرة كانت من إنتاج مغاربي، أي المغرب وتونس وليس ما حصل في مجلة القواعد التي صدرت في تركية. وأشار الريسوني إلى أن المجامع الفقهية على علاتها لعبت دورا كبيرا في فتح باب الاجتهاد، وبعضها عمرها الآن 50 سنة، كمجمع البحوث الإسلامية، وقبله "هيئة كبار العلماء في الأزهر" والتي ألغاها جمال عبد الناصر ثم أعيدت في عهد الرئيس غير المعزول محمد مرسي حفظه الله. وهناك مجمع الفقه الإسلامي الدولي وغيرها، وأنا أحب ذكر التي هي مستقلة عن الدول كالمجلس الأوروبي للدراسات والبحوث والإفتاء الذي يرأسه الشيخ الدكتور العلامة يوسف القرضاوي الذي أنتج الشيء الكثير وطور عقليات المسلمين.