الحج من أزكى العبادات وأعلاها مقاما عند الله تعالى، فهو شعيرة جمعت بين التعبد المالي والتعبد الجسدي، فتميزت بذلك عن كثير من العبادات والشعائر، ثم إنها ماحية للخطايا، ومكفرة للذنوب والآثام، وسائقة إلى رحاب الجنة التي حولها يدندن كل مسلم بشرط أن تكون تامة كاملة مبرورة، وفي الحديث: "... والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". وعندما نتحدث عن الحج المبرور، نتحدث عن ذلك الحج الذي يشمله صاحبه بالتفقه في شروطه وأحكامه، وبالتوبة النصوح من كل ذنب، ورد المظالم والودائع إلى أهلها، والتماس الرفيق الصالح الذي يعينه على أمر دينه، وأمور دنياه، والحج الذي هو مقبل عليه وحريص على أدائه الأداء الأكمل، كما أنه الحج الذي لا يفتأ الحاج يصحح نيته ويجددها، فإن تخليص النيات من الشوائب أشق على الحجاج من الحج بنفقته وسفره وتبعاته، وفي هذا المعنى يقول أيوب السختياني "تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال". إلا أن الكثير من حجاجنا سامحهم الله لا يلتفتون لمثل هذه الأمور، ولا يلقون بالا لما يضمن لهم البر في حجهم، والقبول لعبادتهم ونسكهم، فلا يتزودون علما بأحكام الحج المبثوثة في مظانها من مصادر الفقه أو من أفواه الرجال من حملة العلم، ولا يتحرون المال الحلال في النفقة على هذه الشعيرة ولا يتفقدون أحوال نياتهم، أو يجعلون الحراس على قلوبهم خوفا من لصوص الرياء، وسراق الإخلاص، ودواعي الإحباط، فإن السلف الصالح كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العمل... وهكذا، فإن كثيرا من حجاجنا يشتغلون بتوافه الأمور، فيقضون الأوقات الطويلة في اقتناء المشتريات المختلفة من أنواع ولباس، وصنوف مأكولات ومشروبات وكثير من الحاجيات التي هي في مجملها كماليات، فلا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، وسارعوا إلى إحضارها غير آبهين بما يفوت عليهم من أوقات في ذلك لو أنفقوها في التفقه في الأحكام الخاصة بشعيرة الحج لكان ذلك أقوم وأقرب للصواب وأضمن لحج مقبول مبرورإن شاء الله... ونتيجة لذلك، فإن الكثير من معاشر الحجاج لا يرضيهم أن يحجوا حجا خفيا مستورا، بقدر ما تسول لهم أنفسهم أن يشهروا خبر حجهم بكل الوسائل، فلا يغادرون ديارهم حتى يفشوا الأمر بين القاصي والداني، ولا يرحلون عن بلادهم للبيت العتيق حتى يعقدوا الولائم التي يختلط في معظمها الحابل بالنابل، وكذلك يصنعون عند رجوعهم، مما ينال من حجهم وهم لا يشعرون... فمتى يتوب حجاجنا لرشدهم فيحرصوا على الحج المبرور بشروطه، ويتركوا الحج "المشهور" بسفاسفه؟ المصطفى الناصري