الحديث عن الخصوصية الدينية وضرورة تحصينها يحتاج بعض التدقيق واستئناف النظر، ذلك أن الخصوصية الدينية المغربية لا تطرح أي إشكال من حيث المبدإ، لا من حيث مقوماتها ولا من حيث شروط تشكلها وضرورات استمرارها. إنما يطرح المشكل في طرق تأمين وتحصين هذه الخصوصية، والسياسة المثلى التي ينبغي اعتمادها حتى لا تصير هذه الخصوصية أداة إرادية لتحقيق العزلة من حيث كانت في الأصل مدخلا للإشعاع. فالأصل، أن خصوصية المغرب الدينية، كما تشكلت في تاريخ المغرب، وكما تمثلها العلماء، الذين صنعوا مقوماتها وثوابتها بالتقائهم مع إرادة مؤسسة إمارة المؤمنين، هذه الخصوصية، ضمن هذا التراكم الذي أخد مسارا طويلا، لم تكن تسوغ بشكل من الأشكال الانغلاق والعزلة وبناء أنماط في التدين والتفقه، تعزل المغاربة عن محيطهم العربي والإسلامي، وتخلق العوائق التي تمنعهم من الريادة والإشعاع، وإنما كانت في الأصل تقوم على الأصول التي تحرر عقول العلماء وتؤهلهم بالفكر النقدي لمحاورة ما عند الغير، بكل ما تحمل هذه الغيرية من سعة وامتداد، وتحقيق الإشعاع والنبوغ المغربي الذي تحدث عن فصوله عبد الله كنون رحمه الله. إن أكبر خسارة يمكن أن يمنى بها المغرب هي أن تتحول الخصوصية الدينية إلى عائق يمنعه من الإشعاع خارج محيطه، فيصير المذهب المالكي، الذي اختاره المغرب تاريخيا لسعة أصوله وانفتاحها وقدرتها على إلهام الفقيه النوازلي حلولا عملية للمستجدات، وسيلة للعزلة عن العالم، وتصير الطريقة المغربية في قراءة القرآن حائلا دون أن يتعرف على مميزاتها وخصائصها غير المغاربة، وتصير الطريقة المغربية التقليدية في الأذان مانعا من دخول الجمال المغربي لمنافسة غيره. إن الاختيارات الكبرى التي اعتمدها المغرب عقديا ومذهبيا وسلوكيا –ثوابت المغرب الدينية والسياسية - إنما حافظت على استمرارها واطرادها، بجهود العلماء الذين أدركوا أن ترسيخ هذه الخصوصية يمر بالضرورة بالتحرر من العزلة، والانطلاق بها خارج الحدود بالإشعاع المغربي، والمثاقفة مع الغير، وتطوير وتجديد الوسائل بما يضفي على الطريقة المغربية جمالية وقدرة وتنافسية دينية قوية. تلك هي السياسة التي تبناها علماء المغرب الذين قاموا بالأدوار الطلائعية لتحصين هذه الخصوصية والحفاظ عليها، إذ كانوا يدركون مخاطر العزلة والانغلاق، ويعتبرون أن الثوابت والأصول التي انتهوا إلى الالتزام بها، إنما تم اختيارها وتفضيلها على ما سواها لما فيها من السعة والمصلحة والقدرة على التوحيد والتجميع لاسيما في مجتمع سمته الأساسية التعدد اللغوي والقبلي. هكذا كانت قناعات الشيخ أبي شعيب الدكالي والشيخ العربي العلوي والشيخ عبد الله كنون الذي انشغل أكثر من غيره بإثبات النبوغ المغربي وخوض رهانات الإشعاع الثقافي، إذ لو لم يكن هؤلاء - بعد الاعتزاز بثوابت خصوصيتهم الدينية - منشغلين بمد النموذج المغربي بأسباب التوسع والامتداد والإشعاع، لتحجرت هذه الخصوصية وصارت أشبه ما تكون بالأقانيم المحنطة التي يحفظها الناس ولا يعرفون لها معنى. إن هناك أكثر من دليل عملي، يثبت بأن مدخل تحصين الخصوصية الدينية، إنما يتم بتفاعل النموذج المغربي مع غيره، وخوض تحدي المنافسة وما تتطلبه من العناية بتجديد الوسائل والطرق، والرهان على الإشعاع المغربي لاسيما وأن الثوابت الدينية التي انتهى إليها المغاربة تتمتع بكافة السمات التي ستجعل منها قادرة على التوسع والانتشار. إن الأصوات الجميلة التي تجود القرآن بقراءة ورش وتخوض غمار المنافسة – مثل صوت المقرئ الكبير عمر القزابري وغيره - هي التي تعطي لهذه القراءة امتدادها وتوسعها، وإن الصوت الجميل في الأذان هو الذي يعطي للطريقة المغربية تميزها وإشعاعها، وإن الانفتاح على المذاهب الفقهية والعقدية، والاهتمام بالخلاف العالي – الفقه المقارن -، هو الذي سينتج الفقهاء المغاربة القادرين ليس فقط على الدفاع خارج الحدود عن اختياراتهم المذهبية والعقدية، وإنما تحويل المغرب إلى قبلة ومركز جذب للتنظير الفقهي والأصولي والمقاصدي. إ ن النقلة النوعية التي أحدثتها شعبة الدراسات الإسلامية المغربية في مجال الدراسات الفقهية والأصولية والمقاصدية، ثم النقلة النوعية التي حدثت في الكتابات الفلسفية المغربية، دفعت بلدانا كثيرة – لاسيما دول الخليج - إلى تحويل وجهتها إلى المغرب، وصرف النظر عن وجهات أخرى، انتهت عبر تجربتها الطويلة أنها سقطت في الرتابة والتكرار. هذه المهمة اليوم ممكنة، وشروطها متوفرة، ما يلزم فقط أن يقع التحول في السياسات الدينية بهذا الخصوص، حتى تستجيب لتحديات المنافسة، والحاجة إلى التحرر من المنطق الدفاعي الذي يسوغ العزلة، إلى المنطق الإشعاعي الذي يراهن على التوسع والامتداد.