تساءل سعيد خيرون عن فريق العدالة والتنمية حول ما إذا كانت الحكومة المغربية تتوفر على رؤية واضحة لتحرير قطاع التبغ، أم أنها لا تملك قرارها الاقتصادي حقيقة، وتتبع في ذلك أجندة دولية ومسيرة في إطار العلومة الشرسة. وأوضح خيرون، خلال مناقشات مشروع تحرير قطاع التبغ الذي صادق عليه مجلس النواب الثلاثاء الماضي أن الحكومة الحالية سيحسب عليها جهودها الكبيرة في تعميم التبغ على جميع المغاربة وتقريبه منهم، عوض تعميم التغطية الصحية والتغطية الاجتماعية. وأشار خيرون إلى أنه على ما يروج له من أن تجارة التبغ تكتسي أهمية بالغة في دعم الاقتصاد الوطني، تسبب هذه التجارة في خسائر مهمة بالنسبة للاقتصاد والفرد والمجتمع عامة سواء على مستوى تكاليف العلاج من الأمراض التي يسببها التدخين أو الخسائر غير المباشرة التي ترجع إلى نقص الإنتاجية الناجم عن كثرة الغياب المرضي والوفيات المبكرة. وهذا نص الكلمة السيد الرئيس، السيد الوزير، السيدات والسادة النواب المحترمين، لقد أقرت الشريعة الإسلامية مبدأ تحريم الخبائث باعتبار أضرارها على الفرد أو المجتمع أو هما معا، منذ أربعة عشر قرنا، وذلك لأن هذه الشريعة الغراء جاءت لحفظ الكليات الخمس، والمتمثلة في الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل. وقد أجمعت اجتهادات العلماء والمصلحين على تحريم كل ما يؤدي إلى تعطيل هذا المقصد العظيم، مصداقا لقوله تعالى: "ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما"، وقوله كذلك: "ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفورا" . ولا يعقل استثناء التبغ من هذا المبدإ لما له من آثار سلبية صحية واجتماعية واقتصادية، بل إن التدخين انتحار بطيء. لقد أصبح التدخين وباء عالميا إذ تقدر منظمة الصحة العالمية عدد المدخنين ب1.1 مليار منهم 800 مليون في الدول النامية. ولقد عرف استهلاك السجائر على الصعيد العالمي استقرارا نسبيا خلال الأعوام الأخيرة، إلا أننا نلاحظ في الوقت نفسه أن استهلاك السجائر عرف تراجعا في عدد من دول أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، بينما ارتفع بصورة مخيفة في كثير من الدول النامية + 2 % ومنها المغرب، مما سيؤدي إلى وفاة 10 ملايين نسمة سنة 2025، إضافة إلى أن التبغ مسؤول عن وفاة 3 ملايين سنويا بمعدل فرد كل عشر ثوان، كما يعتبر التدخين أصل ثلث الوفيات عند الكبار وأول سبب للوفاة في العالم الثالث في بداية هذا القرن (أكثر من السيدا). ولقد أولت شركات التبغ في إطار سياستها التوسعية المرأة اهتماما خاصا في محلاتها الإشهارية التي ربطت التدخين بتحرير المرأة وتقدمها وجمالها، مهدمة بذلك الحواجز الاجتماعية التي كانت تمتصها من التدخين. وهكذا أصبح التدخين يشكل خطرا جسيما على صحة وسلامة النساء والفتيات في جميع أنحاء المعمور، حيث يسبب سنويا موت أزيد من 500000 امرأة. إن تدخين النساء يعتبر بالنسبة للصحة العمومية مشكلة خاصة قائمة بذاتها، لأن المدخنات وأجنتهن يتعرضن إلى أخطار خاصة بالنساء زيادة على الأخطار التي يتعرض لها المدخنون عامة. إن الإقبال على التدخين في العالم له عواقب وخيمة، حيث بينت الدراسات أن سرطان الرئة كان نادرا ما يصادف قبل القرن 20، إلا أنه ثبت اليوم أن هناك علاقة مباشرة بين التعاطي للتدخين وهذا الوباء الخطير، مما فتح المجال للباحثين لإثبات أن مكونات دخان السجائر تحتوي على مزيج من غازات وجزيئات تفوق 4000 عنصر، وقد أثبتت الإحصائيات أن هناك حالة وفاة بسرطان الرئة كلما استهلكت 3 ملايين سيجارة. وأمام هذه المعطيات المخيفة والمرعبة يأتي مشروع قانون تحرير قطاع التبغ الذي سنقدم عليه مجموعة من الملاحظات: 1. يقول السيد الوزير في ديباجة مذكرته التقديمية للمشروع: "يندرج تحرير قطاع التبغ في إطار التزامات المغرب إزاء المنظمة العالمية للتجارة، وخصوصا إزاء الاتحاد الأوربي الذي تربطه ببلادنا اتفاقية الشراكة، التي دخلت حيز التنفيذ ابتداء من مارس 2000"، وهذا الكلام الصريح يوضح أن الحكومة من أولى أولوياتها مادامت تصدر المذكرة التقديمية بذلك: هو الانضباط والالتزام بالمقررات الدولية، وبالتالي نتساءل في فريق العدالة والتنمية هل تمتلك الحكومة قرارها الاقتصادي حقيقة؟ وهل لها رؤية واضحة لتحرير هذا القطاع وغيره من القطاعات. أم أن الحكومة تتبع أجندة دولية، وهي مأمورة، مسيرة في إطار العولمة الشرسة التي لن تترك وراءها إلا الضحايا من الضعفاء. 2. كما أن المذكرة تتحدث عن تفويت القطاع "لشريك استراتيجي"، وليس "الشريك"، وفيه إيحاء إلى نوع من الشراكة وليس تسليما لقطاع خاص، بمعنى أن الدولة ستساهم ما دامت تتحدث عن الشراكة، فكيف ستكون شراكتها ومساهمتها في هذا القطاع. وهل بالفعل سيستطيع هذا "الشريك" تحديث وتطوير آليات ونظم الإنتاج وتحسين المنتوج المحلي من التبغ الخام والتبغ المصنع وتصديره وماذا لو كان هذا الاهتمام منصبا على صناعات أخرى؟ ولماذا الحديث عن شريك وليس عن شركاء ؟ هذه مجمل تساؤلات توحي أن هناك خلفية لدى الحكومة نرجو أن تنور الرأي العام بشأنها. 3- حسب المذكرة دائما، "لن يحتاج المزارعون في إطار تحرير زراعة التبغ لأي رخصة من أجل ممارسة نشاطهم كما هو الشأن حاليا" وذلك للحيلولة دون ترك بعض المناطق دون تغطية، مما قد يفتح المجال لتنامي ظاهرة التهريب، فإذن واضح أن هدف الحكومة الحالية، (وسيحسب عليها هذا الأمر) أنها عوض أن تعمم التغطية الصحية والتغطية الاجتماعية وغيرهما، تعمل جاهدة على تعميم التبغ على جميع المواطنين وتقريبه منهم. وإذا حللنا ظاهرة التهريب التي تدفع بها الحكومة في هذا المجال، يتضح أن المعدل السنوي للمحجوزات من لدن كل المتدخلين في الميدان (جمارك ودرك ملكي وأمن وطني وشركة التبغ) بلغ حوالي 000 700 علبة خلال العشر سنوات الأخيرة، وهو ما يمثل حوالي 8% من السجائر المستهلكة، بمعنى أن حوالي 42 مليون علبة سنويا لا تحجز، وبالتالي يجب أن نتساءل عن الخلفيات الحقيقية لعدم المراقبة الجدية، ولضعف المتابعة ولضعف الضبط الحدودي، ولا يمكن أبدا أن تبنى استراتيجية دولة بأكملها وتحرير قطاع في ظل التقصير الملاحظ والإرادة الضعيفة، ويكفي الوقوف على الحدود ساعة واحدة لمعرفة خفايا وحقيقة التعامل مع المواد المهربة. لقد قامت الدولة بمجهودات كبيرة من أجل إعادة هيكلة هذا القطاع، وهذا ما جعل شركة التبغ حاليا تحتل المرتبة السادسة ضمن الشركات العاملة بالمغرب، وتحتل المرتبة الأولى على الصعيد الإفريقي في صناعة التبغ حسب بعض الدراسات، وقد وصل متوسط معدل إنتاج كل مغربي (طفل شيخ امرأة ..) حوالي 400 سيجارة سنويا، وبلغ رقم المبيعات حوالي 9 مليار درهم، والربح الجاري حوالي 800 مليون درهم. وللأسف تجهد الدولة نفسها وتوجه دعمها لقطاعات حتى تصبح مربحة، وآنذاك تتنازل عن بقرتها الحلوب وتفوتها للقطاع الخاص حتى يجني الثمار الفعلية والحقيقية...، ولاشك أن العمل على إدماج الصندوق الداخلي للتقاعد في النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد خير دليل على الإجراءات التي تقوم بها الدولة، لتسهيل المأمورية للقطاع الخاص حتى يستلم المشروع بأدنى تكلفة اجتماعية. وفي المغرب (حسب أرقام شركة التبغ) ارتفع حجم مبيعات السجائر ما بين 1970 و1996 بأزيد من 65 % كما تضاعف رقم معاملات الشركة بأزيد من 22 مرة. إن الدراسات المنجزة حول تحرير قطاع التبغ همت أساسا دراسة استراتيجية تحرير قطاع التبغ وخوصصة شركة التبغ ودراسة الإطار القانوني والنظام الضريبي لقطاع التبغ وسطرت المراحل التي قطعها مسلسل التهييء للخوصصة، ولم تعر أي اهتمام للجوانب الاجتماعية والاقتصادية، فلم تشر هذه الدراسات إلى الانعكاسات على الصحة، فهناك غياب تام في هذا الجانب وكأن وزارة المالية مستقلة عن الوزارات الأخرى، ولماذا لا تشتغل مختلف الوزارات المعنية على هذا المشروع؟ فهل تحل وزارة المالية مشاكلها على حساب وزارة الصحة والوزارات المتعلقة بالشؤون الاجتماعية؟ على عكس ما يروج له من أهمية تجارة التبغ في الاقتصاد الوطني 6 مليار درهم، تسبب هذه التجارة في خسائر مهمة بالنسبة للاقتصاد والفرد والمجتمع عامة، فإلى جانب الخسائر المادية المباشرة الناتجة عن علاج الأمراض التي يتسبب فيها التدخين. هناك الخسائر غير المباشرة التي ترجع إلى نقص الإنتاجية الذي ينجم عن كثرة الغياب المرضي والوفيات المبكرة، وهكذا... وعلى الصعيد العالمي تفوق تكلفة العلاج والوفيات والعجز الذي يتسبب فيه التدخين عائدات تجارة التبغ ب 200 مليار دولار في السنة على الأقل. إن السوق العالمية للتبغ تتحكم فيها خمس شركات عالمية كبرى. وقد استطاعت هذه الشركات أن تسيطر على احتكارات الدولة في الدول النامية، وقد جاء دور المغرب الآن، لأن هذه الشركات تتوسع، فعندما يضيق بها السوق الغربي، لا نجد بدا في احتضانها، مع تصورنا الخاطئ أنها ستنقذ بلدنا وتطوره وتقدمه، ونقدم في هذه الخلاصة مجموعة من المعطيات الاقتصادية التي يجب استحضارها قبل التصويت على هذا المشروع: - تؤكد مختلف الدراسات أن ثمن 5 سيجارات يوميا يمكن أن يؤدي إلى نقص غذائي شهري لحوالي 8000 وحدة حرارية وفيه إفقار للذات وللبدن. - زراعة التبغ تأخذ مساحات الزراعات الغذائية الأساسية، ولو وجهت هذه الأراضي وكذلك المساعدات السخية التي تقدمها الدولة لمنتوجات زراعية أخرى رئيسية لأصبح المغرب دولة فلاحية بامتياز، ولقلص عجزه الغذائي واستيراده للمنتوجات الفلاحية الرئيسية. - تؤثر زراعة التبغ على البيئة تأثيرا سلبيا من خلال: قطع الأشجار بحيث يلزم 000 350 طن من الورق سنويا لصنع ورق السجائر، ويلزم حوالي 8 كلغ من الخشب لتجفيف 1 كلغ من ورق التبغ. - الإفرازات الخبيثة التي يفرزها التدخين. - تجمع مختلف الدراسات من الناحية العلمية على أن التبغ ليس منتوجا عاديا. بالتالي لا يجب التعامل معه كالمنتوجات الاستهلاكية الأخرى وتطبيق قاعدة "الاختيار الأمثل" وقاعدة الربح والخسارة، فالاستهلاك يخضع هنا للعادات والتقاليد والعلاقات الأسرية والاجتماعية والرفقة والمحيط. ففي ما يخص التكاليف الاقتصادية للتدخين، قدر البنك العالمي في تقرير له في ماي 1999 على ان تكاليف التدخين تمثل بين 6 و15% من التكاليف الصحية عالميا، وحسب التقرير نفسه، تتطلب حياة المدخن مصاريف أكبر من مصاريف غير المدخن رغم أن معدل حياة الأول أقل، وهنا يجب الحديث عن التكلفة الاجتماعية وليس التكلفة الاقتصادية وهو ما يؤخذ به الآن في الاقتصاد الحديث. وعلى عكس التقديرات يزيد رفع الضرائب على التبغ من مداخيل الدولة ويقلص الاستهلاك (فعموم الدراسات تؤكد أن الضرائب لها تأثير سلبي ومهم على التدخين بحيث أن Elasticité prix = -0.63) ولا يؤثر حقيقة على التهريب في ظل سياسة ناجعة في هذا المجال. وبالتالي فارتفاع الثمن يؤدي إلى انخفاض الاستهلاك بقيمة تقدر ب (Elasticité prix demande totale = -0.5) وتزداد في الدول ذات الدخل المحدود بحيث أثبتت الدراسات أن رفع الأثمنة بنسبة 10 % يؤدي إلى خفض الطلب بحوالي 8 % في الدول الفقيرة. كما أن الشغل لا يتأثر لأن المناصب الضائعة تتوجه إلى العمل في الميادين الأخرى ما دام أن القدرة الشرائية للمستهلكين مستقرة. (نحيل على محاضرات حول الاقتصاد السياسي للتبغ للأستاذ Pierre Kopp جامعة السربون باريس 1) إن جزءا كبيرا من الوضع الراهن في مجال التبغ يعود بالأساس للحملات المسعورة، التي تقوم بها الشركات المتعددة الجنسية للحفاظ على مكتسباتها في مختلف بقاع العالم، كما يعود إلى الحكومات التي بيدها القوة الزجرية، ولكنها تقف مكتوفة الأيدي أمام اللوبيات الاقتصادية العالمية، ومن هذا المنطلق نقترح مجموعة من التدابير الضرورية للتقليص من أخطار ومضار هذا القطاع: إيلاء الجانب التربوي والشرعي الأهمية القصوى في معالجة هذه الظاهرة ما دام أننا في بلد يعلن دستوره أننا دولة إسلامية، فالقوانين الجافة لوحدها لا يمكن أن تعطي نتيجة في غياب وعي أخلاقي والتزام تربوي. ضرورة رفع الضرائب على التبغ في ظل المعطيات الاقتصادية السابقة. ونأسف لعدم قبول الحكومة لتعديل فريقنا برسم قانون المالية لسنة 2003، والذي كان يرمي إلى رفع الضريبة الداخلية على الاستهلاك من 52 % إلى 60%، وبتخصيص هذه الزيادة لترميم الآثار المدمرة للتدخين، وذلك بدعم المراكز الوطنية للأنكولوجيا ونأسف لمسايرة الأغلبية للحكومة وتوجهها الرافض لمقترحنا. دعوة الحكومة إلى تفعيل قانون 15.91 وذلك من أجل منع الإشهار والتدخين في الأماكن العمومية، فحسب الإحصائيات يؤدي منع الإشهار إلى خفض الطلب بنسبة 7 %، خاصة وأن هذا القانون لا مبرر لتعليق تطبيقه، سواء من حيث انسجامه مع مقاصد ديننا أو مواكبته للاختيارات التشريعية العالمية التي أصبحت تضيق مجالات استهلاك التدخين. القيام بحملات نوعية وزجرية عبر وسائل الإعلام وفي مختلف المدن والجهات. نشر الأبحاث والدراسات التي تعنى بالأثر السلبية للتدخين. وأخيرا فإننا لا نحتاج إلى تأكيد أن صحة المواطن ينبغي أن تكون فوق اعتبارات الربح، وإن التوسع في إنتاج واستهلاك التبغ هو تغليب للاعتبارات المادية على حساب الاعتبارات الإنسانية. ونؤكد أن العولمة والتي تندرج ضمنها سياسات الخوصصة وغيرها ينبغي التعامل معها بكل الاحتياطات اللازمة. وفي هذا الباب لا مندوحة من سد كل الثغرات التي ستؤدي إلى توسيع مجال تصنيع التبغ واستهلاكه، حتى نكون بحق من الأمة التي قال فيها الله عز وجل: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " صدق الله العظيم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.