ان ذلك أواخر 1954 وبداية 1955، بعد أن اكتشفنا أن الشخص الذي في الغرفة ليست امرأة –كما قال لنا الخائن- وإنما شاب وسيم يجلس متكئا ويضع يده تحت خذه كالحائر، تأكدنا أنه أحد رجال المقاومة سقط فريسة دون أن يدري في أيدي الخائن، وقد كان المقاوم المعروف ببطولته عباس المسعدي لكننا لم نكن نعرف بعضنا البعض. سألناه إن كان من رجال المقاومة، ثم أوضحنا له أنه وقع فريسة في يد المخابرات الفرنسية، وما إن سمع ذلك حتى تغيرت ملامح وجهه وبدا التوتر عليه، وقال ارجعوا إلى مكانكم ونلتقي مساء في حديقة جنان السبيل. غادرنا بيت الخائن دون تناول وجبة الغذاء لأن لديه ضيوفا ولا يستطيع أن يتغذى دونهم، ثم التقينا بالمرحوم عباس المسعدي كما اتفقنا في جنان السبيل مساء. وأخبرنا أنه قال للخائن إنه ذاهب إلى الدارالبيضاء لإحضار زوجته والمال وإعداد لائحة بأسماء المقاومين.. لكن المسعدي ذهب إلى تطوان بدل البيضاء لكي ينجوا بنفسه ويدعم المقاومة وجيش التحرير مع المجاهد عبد الكريم الخطيب الذي كان محمد الخامس يحبه ويكن له التقدير والاحترام. كما أخبرنا أنه أطلع الخائن عن تفاصيل خطة وشيكة سيحصل بموجبها رجال المقاومة على السلاح في منطقة مولاي يعقوب، إذ سيلتقون مع ميمون أوعقي (ما يزال على قيد الحياة يناهز عمره مائة وعشرة سنوات) وأحمد الدخيسي، اللذان سيتولون قيادتهم إلى منطقة للا شافية حيث يخزن السلاح، ومن تم ينطلقوا لمقاومة المستعمر في جبال الأطلس وإيموزار مرموشة. ولإنقاذ الموقف، أعطاني عباس ساعة يدوية وأطلعني على كلمة السر «هادو ربعة الخميسات والثلث بلادنا وهذا الخميس الخامس»، ثم سافرت إلى البادية، ومكثت عند عمي الحاج الغالي العمراني الزريفي وعمي المرحوم احميدة العمراني الزريفي، بعد أن أخبرتهما أني في مهمة، وطلبت منهما ألا يسألاني عن شيء آخر. كان الجو ماطرا، ركبت بغلة بعد صلاة الفجر مع ابن عمي، متوجها إلى واد امليل قرب تازة ومنها إلى غياتة وفاس، عند وصولنا إلى غياتة في يوم السوق طلبت من ابن عمي أن يمكث في السوق، وأن يرد على كل من سأله عن سبب وجوده أنه يبيع الغبلة، وركبت ناقلة تسير ب «الشاربون» في حالة سيئة متوجها إلى فاس. وصلت إلى العاصمة العلمية في الساعة الثانية زوالا، وكان علي الوصول إلى مولاي يعقوب قبل وصول الخائن الذي أطلقنا عليه اسم «هاديكا» لأنه كان يشير بيده دائما أثناء الحديث ويقول «هاذي كا هاذي كا»، كما كان لزاما علي أن أقضي الليلة في فاس قبل الانتقال إلى مولاي يعقوب وأن أقوم بمهمتي دون أن يعرف الخائن كي لا تنكشف خطتنا. فكرت في أحد أصدقائي المرحوم أحمد الحواجي كان يعمل خياطا في النخالين بفاس، وأشرت إليه بعيني وقلت له سوف أتغذى معك اليوم، وخرجنا معا إلى أن وصلنا إلى «ملبنة بوطويل» قرب جامعة القرويين، وبعد أداء صلاة الظهر في الجامع، وأخبرته أني أريده في مهمة، فرد علي رحمه الله «إني مستعد للموت». وذهب إلى لقاء الأخوين ميمون أوعقي وأحمد الدخيسي، وأراهما الساعة وقال لهما كلمة السر، وحذرهما من الخائن، فالتحقا بي وركبنا سيارة «شيفرولي» وأديت لسائقها ثمن المقاعد الخالية وطلبت منه الإسراع أكثر وأضفت له عشر ريالات، وقصدنا باب الجديد بفاس، ثم صعدنا إلى المصلى بباب الفتوح، حيث ودعنا أحمد الجنوحي وأخبرت أوعقي والدخيسي بكل شيء عن الخائن. الحلقة القادمة: نجاة المقاوم