رن جرس الهاتف في مكتب صلاح السملالي فتناول السماعة في تبرم وتضجر، فقد ضاق ذرعا بهذه الآلة اللعينة التي لا تكف عن الثرثرة منذ ابتياعه لكرسي مريح تخت قبة البرلمان ، لكن سخطه هذا ما لبث أن توارى خلف صوت جدي حازم: -أهلا وسهلا يا سعادة الباشا... ماذا؟ ...المنصب الجديد؟ ...هذا بفضل كرمكم وعطفكم علي يا سعادة الباشا... اطمئن من هذه الناحية فنحن بعون الله سنكمم الأفواه وسنلجم الأفكار وسنعمل على تعميم سياسة الطبل والمزمار والويل ثم الويل لمن تسول له نفسه خدش هيبتكم أو التطاول على سيادتكم فسنسحقه بل سنجعله يلعن تاريخ ميلاده... هذا ما لا شك فيه وستكون الأعوام القادمة حافلة بالخير العميم والغنائم الكثيرة الوفيرة ولكم فيها نصيب الأسد بإذن الله...مع السلامة يا سعادة الباشا... مع السلامة...فوضع السماعة في قرف وأخذ يجفف العرق المتصبب من جبينه ثم صعد زفرة حارقة يكاد صدره ينشق لها، يا لسخرية القدر!! أيكون استحقاقه لهذا المنصب مرهون بتقديم فروض الطاعة والولاء لمثل هذا الكلب الأجرب؟!!.. هذا هو الواقع الذي لن ينفلت من قبضته أبدا فان ثقلت موازينه عند الباشا فسيرفع فوق الهامات وتفتح له الأبواب الموصدة والخزائن السمينة، أما إن خفت موازينه فسيهوى به إلى الوحل لتطأه الأقدام فيأنف عن مصاحبته القمل والذباب!! وتجول ببصره في أنحاء المكتب الأنيق فغمره إحساس عارم بالزهو والافتخار، من كان سيصدق أن هذا الطالب الفاشل سيلج يوما ما حصن البرلمان المنيع ويصبح غولا شرسا لا يجرأ أحدا على مصاحبته وعلى محاسبته، ومضى به قطار الذكريات يجوب الماضي بحلوه ومره، لقد كان ولا يزال إنسانا ذكيا ألمعيا وأساتذته في ميدان الاحتيال يشهدون له بذلك، استطاع بدهاء فريد ومكر عجيب اللعب على جميع الحبال والاصطياد في جميع البرك سواء كانت صافية أم عكرة، عارض الحكومة وندد بسياستها، كما صفق وهرج لأفعالها أرغد وأزبد فوق المنابر الموسمية فأثار الهياج والأعاصير في صفوف المتظاهرين، تذلل وتملق للحاكم وبطانته ولم يكثف بهذا فحسب بل استثمر أمواله في شبكات الدعارة والمخدرات والأسلحة وما شابه ذلك، فتمكن خلال بضعة أعوام من تكوين ثروة هائلة لو رآها قارون لفغر فاه متعجبا!! ولكنه مع ذلك سيبقى عبدا لحفنة من الكلاب يأتمر بأمرهم ويرد صدى رغباتهم، لطالما ساءل نفسه لماذا يخشى الكلاب وهو على جانب كبير من الغنى والجاه؟.. انه الخوف.. الخوف من انبعاث شبح الماضي الملوث فينكشف المستور وتفتح عورة جرائمه فيصير غرضا ومرما للحاقدين عليه وأحس بالظمأ يغزو جوفه فاتجه صوب الثلاجة وأخرج فنينة خمر فاخرة فطفق يتجرعها وعيناه تتأملان الصور المتوسطة لأحد الجدران.. من هذا الذي يخطب في الجموع المحتشدة فيثير زوبعة من التهليل والتكبير؟ أحقا هو؟ فارتمى على مقعده الوثير والابتسامة الخبيثة لا تفارق شفتيه: الشعب... وما أدراك ما الشعب... هؤلاء الأوباش الرعاع لكم استطاع الضحك على ذقونهم بكلامه المعسول الذي يضمنه أقصى ما تجود به قريحته من الأساليب المزخرفة المزركشة التي تسحر الألباب وتذهب العقول ولا بأس -طبعا- من بعض الحركات البهلوانية لتكتمل فصول المسرحية: الشعب مجرد دابة يعلفها ببضع مآدب يسال لها اللعاب ثم يركبها للوصول إلى الينبوع الذي لا ينضب معينه قط، فان بلغ مبتغاه فلتذهب الدابة إلى الجحيم وليملأ بطنه بالماء الزلال حتى توشك أن تنفجر!! وربت على كرشه المنتفخة المكتنزة وكأنه يحجز مكانا للولائم القادمة!! وبغتة تناها إلى سمعه أطيط بلغة فأخفى بسرعة زجاجة الخمر في سلة المهملات وتصنع الكتابة في أحد الملفات التي علاها الغبار فانفتح الباب علن امرأة بدوية في خريف العمر توشي ملابسها بقدومها من الريف فعقدت الدهشة لسان صاحبنا وتسمر في مكانه كتمثال من حجر وبعد جهد جهيد انطلق نحو العجوز بغية تقبيل يدها فسحبت القروية كفها من بين شفتيه الغليظتين وصاح الرجل في توسل:- أماه!! فأشاحت بوجهها عنه مقاومة سيلا جارفا من الحنين والشوق: -لست بولدي... أنت إنسان غريب عني... ولدي صلاح مات منذ خمسة عشر سنة.. مات منذ أن تآمر مع (القايد) على إحراق مزرعة عمه وتسميم مواشيه.وقال في حنق وحرد: -كان ثعبانا حقيرا وضيعا يستحق فصل رأسه عن جسده فطالما استغل سذاجتك وهوانك فقام بالسطو على ثمن محصولنا الزراعي ورمى إلينا بفتافيت ماندته.وصوبت نحوه نظرة ثاقبة وقالت:لو استعط الضحك على امة محمد بأكملها فلن تستطيع الضحك علي... أتنكر بأنك أقدمت على جريمتك هذه بعد رفض عمك تزويجك بنيته لعلمه بخبثك وسوء نيتك؟ أتنكر هذا؟وقال محاولا تغيير مجرى الحديث: -تفضلي بالجلوس يا أماه ماذا تشربين؟.. عصير فواكه؟ مرطبات؟ أم شاي منعنع؟ أطلبي ما تشائين أنا رهن إشارتك.وقالت في صوت صارم وجازم:- لم آتك لتستضيفني فو الله لولا مصلحة قريتنا ومستقبلها الذي ائتمنت عليه ما تخطت قدمي عتبة مكتبك ولا نظرت عيني الى طلعتك.قال والعبرات تتلألأ في مقلتيه:- ألهذا الحد تمقتينني؟.. ألهذه الدرجة تبغضينني؟ ألم أكن بارا بك عندما رجوتك أن تصحبينني إلى منزلي الجديد فرفضت؟ ألم أكن بارا بك عندما منحتك رزمة من الأوراق النقدية فقدفتيها في فوجهي وطردتيني من ملكوت رحمتك شر طردة؟ وكأني شيطان رجيم قدر له أن يبقى نادما متحسرا على الفردوس المفقود.وقالت وهي لا تزال واقفة:- لقد قلتها لك ألف مرة وأعيدها على مسامعك مرة أخرى، لن أسمح للقمة الحرام أن تدخل أحشائي ولا أن تسري في دمي فخير لي أن أشارك الكلاب والقطط طعامها وأفترش الأرض وأتدثر بالسماء وان آكل لقمة مغمسة بعرق الفقراء وبؤس الأشقياء ومرارة التعساء ولن أسمح لديدان الأموال المشبوهة الملوثة أن تنخر أركان البيت الشريف الطاهر الذي أوى الفدائيين والمجاهدين أيام الاستعمار أنك –ويا للأسف- وصمة عار في جبين أجدادك الشجعان الذين قدموا دمائهم الزكية قربانا لتحرير وطنهم من بين براثين الفرنسيس، لو كانوا يعلمون أنك تشق طريقك إلى الوجود ما ترددوا لحظة واحدة بقر بطون زوجاتهم تلافيا للعنات التي ستلاحق ذريتهم إلى يوم الدين.فتهالك على مقعد وأخفى وجهه بكفه وقال:- لن نتفق أبدا يا أماه.. لن نتفق انك لازلت تعيشين على ذكرى بطولات ساحقة ماحقة ولا تدرين أن عصر الأبطال مضى وانقضى ولم تعد البطولة مسموح بها في هذا الزمن... هذا زمن العمالقة الجبابرة... زمن يسود فيه قانون الغاب... القوي يأكل الضعيف يفتك بالأضعف منه... فبالله عليك أترضين أن يكون ابنك لقمة سائغة تلوكها الأفواه القدرة؟وقالت الأم في تدمر:- لا فائدة في مجادلتك فمازلت كعهدي بك دائما صلب الرأس كحجر الصوان تنتحل الأعذار لتبرير جرائمك وفظاعة أعمالك التي يشيب لهولهما الوليد، إني أتعجب كيف يتسلل الكرى إلى جفنيك فتبيت هانئ البال مطمئن الخاطر ودعوات المظلومين تطرق عنان السماء لتشكي طغيانك وبغيانك إلى رب العالمين؟ ألا تخشى يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون؟ بأي وجه ستقابل الله وكاهلك مثقل بذنوب تنوء عن حملها الجبال؟وأطرق صلاح برأسه وعواطف شتى تنازع كيانه، وأضافت الأم بصوت يعتلج في نبراته الشفقة وربط الجأش:- كل ما أرجوه منك أن تكف عن ابتلاع الميزانية المخصصة لإصلاح الطرق في قريتنا وأن تقلع كذلك عن احتكار الحبوب في مواسم الجفاف فكفانا ما حل بنا وإلا فو الله لأقفن في وجهك ولأنشرن صحيفة ماضيك الأسود أمام الملأ.وسكت الابن ولم ينبس ببنت شفقة فاقتربت منه وضمت رأسه إلى صدرها بحنان وقالت:-صدقني يا بني.. صدقني.. المال الحرام كماء البحر كلما ازددت شربا ازددت عطشا ولا تحسبن أن الأوضاع ستبقى مستفحلة هكذا كلا وألف كلا فلابد أن البركان سينشط يوما ليقذف حممه النارية فينجرف معها كل معتد أثيم مصاص لدم الفقراء والمساكين.وشعر صلاح بالصدر الحنون يبتعد عنه وود اللحاق به لعل دموعه على حجر أمه تطهره من آثامه ولكن نظرة ألقاها على كرسيه الفخم جعلته مكبلا مغللا لا يقوى على الحركة فسبيل التوبة والغفران مسالكه شاقة وعرة لا يستطيع أمثاله السير فيها ولو بضعة أمتار!!.