الأرجنتيني الراحل إرنيستو ساباتو الذي يعتبر من أكبر الكتّاب المعاصرين سواء في بلده او في سائر بلدان أميركا اللاتينية والعالم الناطق باللغة الإسبانية ، صاحب الأعمال الرّوائية الذائعة الصّيت مثل: عن الأبطال والقبور، والنّفق، وملاك الظلام، وأبادّون المهلك وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها عصرَه بكلّ ما تميّزت به بلادُه الأرجنتين بالذات من فتن، وقلاقل، وإضطرابات، ناهيك عن الجرائم التي إرتكبتها الدكتاتورية العسكريّة فيها، حيث ناءت كاهلَه مهمّةٌ شاقةٌ عانى منها الكثيرعندما كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حكم الرئيس الأرجنتيني راؤول ألفونسين. الحياة قصيرة والمعاناة طويلة هذا الكاتب كانت له قصّة طريفة مع الموت، وهو لمّا يزل في شرخ الشباب، وعنفوان العمر، طريّ العُود، غضّ الإهاب، عندما إدلهمّت، وإسودّت الدنيا في عينيه ذات يومٍ وهو في غربته ومهجره بفرنسا بعيداً عن أهله وذويه وبلده حيث أشار في مختلف المناسبات ضمن أحاديث عديدة أجريت معه أنّ الحياة قصيرة جدّاً على الرّغم من عمره المديد، وأنّ مهنة العيش صعبة وشاقة للغاية، ومن متناقضات الحياة وسخريتها فى نظره أنّه عندما يبلغ الإنسان النضج، ويبدأ في إدراك خبايا الأمور، والتعمق فيها يداهمه المرضُ، ويهدّه الوهنُ، ويحدّ العياءُ من نشاطه، وحيويته، وحركاته، ثمّ أخيراً يأتي الموت ويباغته، وقال إنّه كان ينبغي أن يعيش الإنسان على الأقل 800 سنة ..!. ويمكن أن يعتبر هذا مبالغة، إلاّ أنه أردف قائلاً: هذه فعلاً مبالغة !..لا غرو فأنا أحبّ المبالغة في كلّ شيء!. وقال ساباتو قبيل وفاته: إنّه وقد شارف المئة من عمره وهو ما زال يتعلّم أصولَ العيش، وفنَّ الحياة التي تحفل بالآلام، والآمال والمحن، والأحزان، وحياة الكاتب أو الفنّان أكثر خطراً وتعقيداً لحساسيته المفرطة، وأنّ المرء في بعض الأحيان يتمنّى الموت ويشعر بميل له لجعل حدّ لحياته، وهذا ما حدث له بالفعل عندما كان في مقتبل العمر، وعليه فإنّ هذا المشهد كثيراً ما يتكرّر في كتاباته، إلاّ أنّ أبطاله على النقيض من ذلك ينتهون دائما نهايات سعيدة، بمعانقة الحياة، وإقصاء التهلكة عنهم، ولهذا فليس هناك أيّ دين يبيح الإنتحار، بل إنّ جميع الأديان تحرّمه. الفرار من مخالب الموت وقال ساباتو: إنّ الأدب قد أنقذه من مخالب موت محقق، وهو يشير في هذا القبيل إلى أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد ادلهمّت في عينيْه وأثقلت كاهلَه، وقصمت ظهرَه، حيث كان يعيش أقسى، وأعتى، وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة عميقة مظلمة تنفتح تحت قدميه روحياً ومادياً، عندئذ فكّر في أن يجعل حدّا لحياته، وأن يلقي بنفسه في نهرالسّين الباريسي، إلاّ أنّه حدث كما يقول ما لم يكن فى الحسبان: فقد سرقتُ كتاباً من إحدى المكتبات وهي مكتبة جِيلبيرْ جُونْ، وذهبتُ إلى أحد المقاهي في الحيّ اللاتيني، وفتحت الكتابَ في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلا ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه، وإلى الحياة بقوّة، وبسط أمامي مباهجَ الحياة، وفضيلة التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس، كتبتُ على الفور إلى أمّي فى الأرجنتين، وطلبتُ منها بأن ترسل لي بعضَ النقود لأعود إلى بلدي حيث إلتحقتُ بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم، وبعد أن حصلت على الدكتوراه في هذا الحقل عدت من جديد إلى مدينة النور باريس، التي ولدت فيها من جديد، وأقنعتني إتصالاتي، وقراءاتي، وصداقاتي مع العديد من الكتّاب، والرسّامين السّورياليين بأن أهجرَعِلْمَ وعالمَ الرياضيات والعلوم من جديد وأن أرتمي في أحضان الأدب، والخلق، والعطاء، والابداع. ويشير ساباتو إلى أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم، الى فلسفته الفوضوية وكان إرنيستو ساباتو يعتقد انّنا نعيش نهايةَ عهدٍ، وبدايةَ عهدٍ آخر، وأنّ العهودَ الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار، والأعاصيرالحياتية والمفاجآت، إذ أنه في هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهرهذه البسيطة، أو من على تضاريس هذه الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فإنّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب، وتمحيص وتفحيص أفكار الماضي وإستخراج ما هو صالح منها، ونبذ كلّ ما طالح بها. وعن وظيفة الفنّ كان ساباتو يقول: إنه يصلح لإنقاذ صانعه، ومبتكره، ومتلقّيه، وقارئيه من الإنهيار، بل إنه يساعدنا علي مواجهة بعض اللحظات الحالكة، والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة، والوحدة، والحيرة، والغضب، والمرارة، والقلق، والإرتياب حيال التساؤلات الكبرى، والألغازالمحيّرة للوجود التي تُطرَح على المرء في لحظات مّا من عمره. الإغريق.. أكثر الشعوب سعادة وأشار ساباتو إلى أنّ الإغريق كانوا خيرَ مربّين لشعوبهم علي المستويين التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة بيريّوس لم يكونوا متعلمين بل أمييّن، مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكزوفانيس وسواهم، وكانوا يبكون، ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم على إنقاذ ذواتهم، وأنفسهم، ممّا كان يجعلهم أكثرَ سعادة، وإستعدادا لمواصلة العيش، وفهم الحياة بشكل أحسن، أيّ فهم وإستيعاب الجوانب الايجابية والعناصر الصالحة فيها. ويرى ساباتو أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضاً، بخاصّة في ما يتعلق بالتراجيديا. ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، إلاّ أنّ هذا الجمال الحقيقي هو ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكوراً في إناء مزركشاً، أو رسماً بديعاً على فخار، بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الّرّوحَ والوجدانَ أكثرَ ممّا يخاطبُ العينَ والأذنَ. ويختم الكاتب السّاخر حديثه بالقول: إنّ مثل هذه الأحاديث تمليها عليه السّنون، فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعدما خَبَا ضياءُ عينيه، وشحّ نظرُه حتى كاد يفقده، وبعدما كان قد توقف عن القيام بأيّ نشاط عضوي، سوى المشي بتؤدةٍ وتأنٍّ بضعَ خطواتٍ في باحةِ بيته. وكأنّ ساباتو في هذا المعنى يذكّرنا ببيتيْ أبي عليٍّ البصير الذي يقول فيهما: لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي/ ويقتادُني في السّير إذ أنا راكبُ/ فقد يستضيُ القومُ بي فى أمورهم/ ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ. سبق لأرنيستو ساباتو أن حصل عام 1984 على جائزة مرموقة تحمل إسمَ ميغيل دي سيرفانتيس صاحب دُونْ كيخوتِه دِي لاَ مَانشا التي تنظّم بإسبانيا والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية الهامة الأخرى داخل بلاده وخارجها. توفّي ساباتوعام 2011عن سنّ تناهز 99 عاما. د. محمّد محمدّ خطابي كاتب ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية الأميركية لللآداب والعلوم -بوغوتا- كولومبيا.