لا تقتصر الرؤية الاستراتيجية المغربية التي تستهدف إقرار السلام في منطقة الساحل الإفريقي، فقط على الجوانب الاقتصادية والتنموية أو على التأطير الديني ومحاربة التطرف ونشر قيم الاعتدال والتسامح الديني، أو تقديم المساعدات العسكرية والأمنية، بل تعطي أيضا أهمية كبيرة للبعد الثقافي والاجتماعي والتاريخي في عملية تعزيز السلم والمصالحة. في ظل الوضع العام القائم على عدم الاستقرار وبروز تهديدات حقيقية لدول المنطقة، يقوم المغرب بمجهودات دبلوماسية من أجل إقرار السلم والأمن في شمال مالي، بحكم علاقاته التاريخية والروابط الدينية والاجتماعية بقبائل الطوارق والعرب على حد سواء، وكذا مع الإثنيات الأخرى خاصة الفولان، والعمل على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء في منطقة أزواد. كما أن التواجد المغربي القديم في منطقة الساحل الإفريقي والروابط التاريخية والعلاقات الاجتماعية المتداخلة، ترك أبعادا عميقة من الولاء خاصة بين قبائل شمال مالي العريقة، وروابط قوية بين العرش المغربي وبعض الزعامات الطوارقية الأمازيغية والعربية، فالحكم المغربي في منطقة الساحل الإفريقي امتد لثلاثة قرون كاملة، وأوجد حضارة مغربية زنجية متميزة، بفضلها تطور زهاء سبع مساحة إفريقيا وعشر سكانها أنذاك. ولازالت العديد من القبائل التارقية، والعربية تعتز بأصولها المغربية، بل إن الطوارق في الصحراء الكبرى يعتبرون أن"الملكة تينهنان" الأم الروحية لشعبهم تنحدر من منطقة تافيلالت المغربية، ومنهم من لا يزال متمسكا ببيعته للعرش العلوي. الأمر الذي جعل المغرب يقوم بإعادة توظيف هذا الإرث في السنوات الأخيرة من أجل بناء السلام، والدخول على خط الاهتمام بالمعضلة الأمنية في منطقة الساحل الافريقي، عبر مسار توطيد العلاقة مع مالي الرسمية وتوطيد العلاقة مع التنظيمات القريبة منه " كالحركة الوطنية لتحرير أزواد"، التي استقبل الملك محمد السادس، قيادتها بمدينة مراكش سنة 2014، في إطار الجهود التي ما فتئ الملك يبذلها من أجل إقرار الأمن والاستقرار والمساهمة في التوصل إلى حل للأزمة المالية، منذ اندلاعها خلال سنة 2012. الروابط التاريخية والاجتماعية للطوارق مع المغرب اختلف المؤرخون في الأصول العرقية للطوارق، فمنهم من أرجع أصلهم إلى العرب، حيث ذكر عبد الرحمن السعدي (عاش في القرن السادس عشر الميلادي 1596-1655 م، وعاصر دولة السنغاي وعمل مع باشا الجيش المغربي الحاكم أنذاك في السودان الغربي). في كتابه "تاريخ السودان" نقلا عن صاحب كتاب "الحلل الموشية في ذكر أخبار المراكشية"، أنهم يرفعون أنسابهم إلى حمير من اليمن، ومن الدراسات أيضا من تربط الطوارق بصنهاجة المغرب، حيث تذكر، أنه بعد أن استعمر من طرف الرومان منذ سنة 42 ق- م، ومن بعدهم الوندال منذ سنة 427 م، والذين ارتكبوا وطيلة قرون أعمالا في منتهى الوحشية في حق المغاربة أنذاك، فصادروا الأراضي الخصبة وطردوا السكان من القرى مع تحويل الملاك إلى مؤاجرين، مع فرض نظام السخرة والضرائب الثقيلة وممارسة كل أشكال الذل والمهانة، نتج عن ذلك هجرات متتالية للعديد من القبائل الأمازيغية نحو الجنوب والصحراء وما وراءها ووسط النيجر وشمال غانا، من خلال ثلاثة موجات رئيسة من الهجرات المشكلة خاصة من صنهاجة المغرب : المجموعة الأولى من هذه الهجرات، تشكلت من قبائل لمطة ولمتنونة والملثمين المنتمين إلى هوارة، وقد قطنت الواحات الصحراوية شمال نهر النيجر. المجموعة الثانية اتجهت نجو الجنوب الغربي من نهر النيجر وأسست مدينة أودغوست (مدينة قديمة اندثرت، ويطلق عليها كذلك أودغشت وكانت عاصمة مملكة أوداغست الصنهاجية قبل قيام المرابطين، وتوجد أطلالها اليوم ضمن ولاية الحوض الغربي في موريتانيا الحالية) ، وقد شكلوا طيلة وجود إمبراطورية غانا عمدة الحكم والمسيطرين الفعليين عليه. أما المجموعة الثالثة فكانت بعد اكتساح المغرب من طرف الوندال في بداية القرن الخامس الميلادي، واتجهت إلى جنوب مدينة غاو في منطقة "كوكيا" شمال مالي حاليا. وقد اختلف تعريف الطوارق حسب السياقات التاريخية والجغرافية، غير أن المرجح هو أن إسم الطوارق هو تحريف في لسان المشارقة - بالطاء بدل التاء - لكلمة توارك، نسبة إلى قبيلة تاركة الصنهاجية التي كانت تستوطن قديما منطقة وادي الساقية الحمراء بالصحراء المغربية، الذي كان يدعى أنداك وادي تاركا (يكتب بحرف الكاف أو الجيم)، حيث يقول أبي عبيد البكري (المتوفى سنة 487 ه) في كتابه "المغرب في ذكر بلاد افريقية والمغرب"، وهو جزء من كتابه "المسالك والممالك"، من "وادي درعة خمس مراحل إلى وادي تارجا وهو أول الصحراء"، أما الحسن الوزان (ليون الإفريقي ) فقد خصص فصلا من كتابه "وصف إفريقيا"، عنوانه "الصحراء التي يسكنها شعب تاركة ". ويفضل الطوارق الأمازيغ أن يطلق عليهم إسم "إيماجغن" أو"اتماشق"، وهما مرادفان لكلمة أمازيغ ومعناها الرجال الأحرار، وبحكم مجاورتهم للعرب في الشمال وللأفارقة الزنوج في الجنوب، صار الطوارق شعبا مهجنا يجمع في دمائه أعراقا أمازيغية وعربية وأفريقية. وينقسم الطوارق في منطقة ازواد إلى مجموعتين: الأولى من طوارق الغرب ويسكنون في ولاية تمبكتو، والثانية تتشكل من قبائل طوارق الشمال الكثيرة العدد، ومنها قبائل "إموشق" التي تنتشر قرب الحدود مع الجزائروالنيجر، وقبائل "إفوغاس" وتعني"الشرفاء"، وينتسبون إلى أشراف مدينة تافيلالت المغربية، كما ينتسبون إلى ذرية إدريس الأول مؤسس دولة الأدارسة، وينتشرون ما بين شمال مالي و النيجروجنوبالجزائر، أما العرب فيتوزعون على قبائل أهمها قبيلة "كنتة " وقبيلة "البرابيش"، إضافة إلى قبائل "تلمسي" و"إداوعلي" و"أولاد إدريس". وصل العرب إلى منطقة أزواد مع الحملات الإسلامية الأولى في شمال إفريقيا، ومع مرور الزمن تمزغ أغلبهم وصاروا من الطوارق ثقافيا، وقد تعزز حضور العرب في منطقة أزواد كمكون في نهاية القرن ال 16مع توسع دولة السعديين المغربية، التي أرسلت عددا مهما من الجنود والحرفيين والصناع فاستقروا في المنطقة، ومع التواجد المغربي زاد هذا العدد مع أول موجة هجرة عربية، حيث حلت بالمنطقة قبيلة كنتة العربية القادمة من المغرب لتشكل نواة أبرز قبيلة عربية في شمال ماليوالنيجر، وكان منها أشهر العلماء والقضاة الذين عرفتهم المنطقة. وقد شكل المغاربة في مدينة تمبكتو أيام ازدهارها تقريبا ثلاثة أرباع السكان. وينحدر البرابيش من منطقة الرحامنة نواحي مراكش، (ينتسبون كقبيلة الرحامنة إلى رحمون بن رزق بن أودي بن حسان) ويقطنون منطقة تنبكتو، كما تنحدر كنتة من قبيلة تجاكانت المغربية التي استوطنت منطقة تندوف تم توزعت مابين منطقة لقصابي (نواحي مدينة كلميم بالمغرب) وولاتة في الصحراء الشرقية من موريتانيا، وتقطن فروعا منها منطقة غاو، يضاف إليهما اتحادية "كلنتصر" وهي ثالث أكبر إتحادية من أصل عربي إلى جانب إتحادية لبرابيش وإتحادية كنتة، والتي انصهر فيها العديد من القبائل ذات الأصل الصنهاجي الأمازيغي، وتنقسم هذه الاتحاديات أيضا إلى قبائل فرعية. توظيف الموروث الثقافي المشترك بين المغرب والطوارق في عملية بناء السلام طيلة العشر سنوات الماضية، وفي شهر نونبر من كل سنة، تشهد بلدة محاميد الغزلان (تعرف قديما ب" تاراكالت "Taragalt، وهي بلدة سياحية صغيرة في جنوب المغرب الشرقي كانت تشكل ملتقى للقوافل التجارية المتجهة صوب تنبكتو وغيرها، وقد مرت منها حملة المنصور الذهبي العسكرية نحو السودان الغربي، تتبع إقليم زاكورة إداريا و تبعد عن مدينة زاكورة ب 90 كم، وبحوالي 40 كيلومترا عن الحدود الجزائرية)، أكبر تظاهرة فنية تشهدها المنطقة والمتمثلة في مهرجان "تراكالت"، الذي يستضيف سنويا عددا من الفنانين القادمين من مالي ومن منطقة أزواد خاصة، ومن النيجروموريتانيا، وعدد من الموسيقيين العالميين المشتغلين على تراث الصحراء، بالإضافة إلى فرق فنية من الجنوب المغربي. لقد أصبحت بلدة أمحاميد الغزلان، خاصة بعد اندلاع الأزمة الأمنية في شمال مالي، ملتقى لأشهر الفرق الموسيقية الطوارقية، فمنذ سنة 2012م لم يعد بإمكان مهرجان الصحراء لتنبكتو العاصمة الثقافية والتراثية لجمهورية مالي، الذي كان يشكل حدثا ثقافيا بارزا في إفريقيا، أن ينعقد بسبب تحريم الموسيقى في أزواد وتخريب معالم هذه المدينة التاريخية، خاصة بعد سيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة على المنطقة، وأصبح مهرجان "تراكالت" التراثي الموسيقي و"المهرجان الدولي للرحل"، الذي ينظم أيضا في بلدة محاميد الغزلان، للاحتفاء بثقافة الرحل من جميع أنحاء العالم، يشكلان معا فرصة لفناني أزواد لإسماع صوتهم الذي توارى بسبب انعدام الأمن في منطقتهم. العديد من الفرق الموسيقية من طوارق ازواد والنيجير أصبحت تعتبر منطقة محاميد الغزلان بلدها الثاني، فمثلا فرقة "تيناريوين" المشهورة والتي تأسست في الثمانينات من القرن الماضي و حازت على عدة جوائز عالمية، يعد من أهم إصداراتها سنة 2016 م ألبوم غنائي تحت عنوان "الوان"، تم تصويره بمنطقة محاميد الغزلان. إقبال المجموعات الموسيقية الطارقية على المنطقة أدى إلى ظهور عدة فرق محلية مغربية، تقدم عروضا موسيقية بلهجات الطوارق "اتمشاق" و"الحسانية"، وأصبح العديد منها - كفرقة "أجيال تاراكالت "- يشارك في عدة مهرجانات دولية بأسلوب "تيناريوين" في الموسيقى. إضافة إلى ذلك، وبمبادرة من المجتمع المدني المغربي، اتفق سنة 2013م، مسئولي ثلاث مهرجانات "تاراكالت محاميد الغزلان- المغرب"و"سيغو حول النيجر- النيجر"، و"مهرجان الصحراء- تمبكتو- مالي"، على إطلاق مشروع يهدف إلى دعم الحوار والتضامن بين أبناء منطقة الساحل الإفريقي وجعل الثقافة تلعب دورها في إرساء السلم والأمن في منطقة أنهكتها المآسي والنزاعات، حيث تم الإعلان عن "القافلة الثقافية للسلام"، التي تنطلق كل سنة ومنذ 2013م من بلدة أمحاميد الغزلان في اتجاه ماليوالنيجر، من أجل مواكبة مسلسل السلام بمالي عقب اتفاقية السلام الموقعة بين الأطراف المتصارعة، والقيام بحملات تحسيسية وتوعوية واسعة ميدانية لتشجيع وتعزيز المصالحة بين مختلف الأطراف، ودعم الاستقرار انسجاما مع الدور المغربي الساعي إلى غرس قيم التضامن والتعايش في القارة الأفريقية، وتشجيع الحوار والتبادل الثقافي والتحسيس بأهمية إدماج البعد الثقافي والبيئي في مشاريع التنمية في دول الساحل. * باحث في الدراسات الاستراتيجية والأمنية