في 20 فبراير 2011 ارتفعت وسط الشارع المغربي الصرخة الأولى لحراك هو الأقوى من نوعه في عهد الملك محمد السادس، حراكٌ أتى في سياق "الربيع العربي" الذي أطاح بالعديد من الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان المثير للانتباه فيه هو وقوف العديد من التيارات المعارضة على اختلاف أيدولوجياتها، صفا واحدا لرفع مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية وثقافية، كان أعلاها تغيير الدستور وحل الحكومة والبرلمان وأعلاها صوتا "إسقاط الفساد والاستبداد". وعلى عكس المسار الذي اتخذه الحراك في العديد من الدول العربية، اختار المغرب، من خلال أعلى سلطة في البلد، التفاعل المباشر والسريع مع الحراك بشكل فاجأ حتى المحتجين، وانتهى الأمر بإقرار دستور جديد وتنظيم انتخابات مبكرة أوصلت "الإسلاميين" إلى قيادة الحكومة لأول مرة في التاريخ المغربي، لتضمحل حركة 20 فبراير من الشارع تدريجيا ويعيش المغرب بعد ذلك أحداثا سياسية كثيرة وتوترات اجتماعية مسترسلة ووضعا حقوقيا يصفه العديدون بأنه يعكس "ردة واضحة"، ما دفع "الصحيفة" للتساؤل في الذكرى العاشرة لميلاد حركة 20 فبراير: هل أحسنت المملكة استغلال عشرية ما بعد الحراك، أم أنها أضاعت فرصة إحداث انتقال ديمقراطي متكامل؟ السؤال الحقوقي: الانعكاس الأوضح بعد عقد من الزمن على حراك كانت المطالب الحقوقية إحدى دوافعه، تُفرض العديد من المقارنات بين واقع حرية الرأي والتعبير وحرية العمل الصحفي في فترة ما بعد 20 فبراير وصولا إلى الفترة الراهنة المتسمة بشكاوى العديد من الحقوقيين من "التضييق الممنهج" وبوجود صحافيين في السجون بتهم مختلفة، وحول ذلك يقول المفكر والأكاديمي المغربي محمد جبرون، إنه "بخصوص الحريات العامة بعد 10 سنوات من 2011 لم نتجاوز السقف الذي كان موجودا آنذاك بشكل كبير، اللهم إذا تعلق الأمر ببعض الانفراج النسبي في العلاقة بالإسلاميين والتي تمثلت في وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة، لكن عموما لم تتغير الكثير من الأمور". وأورد جبرون، أستاذ التعليم العالي بمركز مهن التربية والتكوين بطنجة، أنه بملاحظة المقاربة التي اعتمدتها الدولة في التعامل مع الحراك الاجتماعي في مختلف الجهات خاصة في الريف وجرادة، يمكن أن القول إن الأمر "انتقل من اعتماد بعض المرونة ونهج سبيل الحوار وعدم إعمال المقاربة الأمنية في البداية، إلى عودة المقاربة الأمنية التي انتصرت على غيرها من المقاربات في نهاية المطاف". وخلص المتحدث نفسه إلى أنه "من الناحية الحقوقية لا يمكن القول إن 2011 كانت فاصلا بين عهدين فلا زالت هناك مشاكل مرتبطة بحرية التعبير وأساسا في العلاقة بالصحافة وبالتعامل مع الحراك الاجتماعي وبتدبير الاحتجاجات، وأيضا نسبيا بانفراد الداخلية بتدبير هذا النوع من الملفات". أما الحقوقي خالد البكاري، فميَّزَ بين مرحلة ما قبل 20 فبراير ولحظة 20 فبراير ثم ما بعد 20 فبراير، موردا أنه قبل حراك 20 فبراير كان قد حصل نوع من التقدم في مجال الحقوق والحريات خاصة في الفترة التي ساد فيها النقاش حول مفهوم العدالة الانتقالية، والذي توج بتأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة وبث شهادات ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وفي لحظة 20 فبراير، يضيف المتحدث، كان هناك توسيع لهذا الهامش نوعا ما في تجاوب مع ما كان يقع في الشارع من احتجاجات بمحاولة امتصاصها، حيث انفتحت التلفزة العمومية على معارضين جذريين وراديكاليين، مع نوع من التساهل مع حركة الشارع، رغم وجود محاولات لفض الاحتجاجات بالعنف مع حصول اعتقالات، لكن مقارنة مع ما كان سائدا في باقي دول المنطقة يمكن القول إن التعامل في المغرب كان "متميزا". لكن اليوم، يقول البكاري "نجد أننا عدنا إلى مراحل سابقة كنا نظن أننا قد قطعنا معها، إذ عندنا صحافيون معتقلون، ونادرا ما كان يتم اعتقال صحافيين حتى في أزمنة الجمر والرصاص، هناك أيضا أحكام ظالمة وقاسية تصل إلى 20 سنة في حق المحتجين، وتسيِيد الرأي الواحد في الإعلام العمومي وحتى في بعض المنابر الخاصة، والتشهير بالمعارضين والنشطاء المدنيين والحقوقيين والمدونين، ونجد كذلك عدم التساهل مع التظاهر السلمي في الشارع". وخلص الناشط الحقوقي إلى أن هناك "تسييدا للمقاربة الأمنية، وهذا مرتبط بتراجع الورقة الحقوقية في العالمة للضغط على الأنظمة السلطوية، بالإضافة إلى وهم عند بعض صانعي القرار في المغرب، مفاده أنه يمكن محاصرة أي احتجاج مستقبلي بإظهار قوة الدولة المتجلية في العنف وأمْنَنَة كل الفضاءات". وحسب البكاري، وهو أيضا كاتب مقالات رأي، يبقى فضاء الإعلام والصحافة هو "الوجه البارز لتغول السلطوية في المغرب وتغليب المقاربة الأمنية، فعندنا صحافيون معتقلون على رأسهم توفيق بوعشرين وعمر الراضي وسليمان الريسوني، ولدينا كذلك بعض المقاولات الصحفية التي كانت تغرد خارج السرب إما دُفعت لإقفال أبوابها أو يجري التضييق عليها، وحتى الإذاعات الخاصة نجدها لا تختلف عن نظيرتها العمومية في تسييد الرأي الواحد، أما الصحافة المكتوبة فآخر ما تبقى من المستقلة منها تتم محاصرته، والفضاء الرقمي يجري التضييق عليه ولولا يقظة المواطنين لجرى تمرير مشروع قانون 20 – 22، وهناك أيضا صحافيون آثروا النفي الاختياري خارج البلد ومنهم أسماء كبيرة طبَعت الصحافة المغربية في بداية العهد الجديد مثل أبو بكر الجامعي وأحمد بن شمسي وعلي المرابط". وخلص المتحدث إلى "أننا اليوم نعيش واحدة في أسوأ مراحل الصحافة في المغرب، والتي دفعت الكثيرين إلى ممارسة نوع من الرقابة الذاتية في شكل تحرير الخبر أو المواضيع التي يُتجنب الحديث عنها، لدرجة أنه يمكننا القول إن جهات أمنية صارت تتحكم في تدفق الأخبار". من جهته يرى السياسي والنقابي جمال العسري أن المغرب كان قد كسب العديد من النقاط الإيجابية في مرحلة ما بعد 20 فبراير، "فرغم الاختلاف حول مدى تحقيق الحركة لمطالبها إلا أن هناك إجماعا حول أنها أفرزت تقدما حقوقيا، وهذا لا يعني أن المخزن منحه لنا عن طيب خاطر، وإنما الشعب هو من أخذه لنفسه، من خلال حقوق بعضها جرى التنصيص عليه في دستور 2011، مع الإشارة إلى أن مجموعة من الحقوق كانت موجودة سابقا لكنها لم تكن مطبقة". وتابع عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الموحد "في مرحلة ما بعد 20 فبراير ولفترة تمتد ل3 إلى 4 سنوات كانت هناك يقظة شبيهة بما لاحظناه عند بداية العهد الجديد أي ما بين 1999 و2003، إذ برزت آنذاك حرية للتعبير وللعمل الصحفي وكسر للطابوهات، لدرجة أن الخطابات الملكية كانت تناقش، وبعض الكتابات تنتقد القرارات الملكية والمقربين من المحيط الملكي"، وأضاف "ظهر هذا الأمر جليا من خلال الانتشار الكبير للمواقع الإعلامية المحلية والجهوية والوطنية، حيث إن الصحافة الإلكترونية المعتمدة على السرعة أصبحت تسابق الزمن لإعطاء الخبر وفتح المجال للتعليق عليه، وهذا ما سهل تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت تضعها الصحافة لنفسها أحيانا". وحسب المتحدث نفسه فإن "الانفراج لم يكن برغبة من النظام، بل بضغط من الشارع، أي أن النظام كان مرغما عليه"، موردا "لقد عودنا المخزن أنه عندما يُسلب منه شيء لم يرغب في إعطائها يحاول ما أمكن استراجعه بمنطق أنه كان قد انحنى للعاصفة وحان الوقت ليرفع رأسه من جديد، وهذا ما حصل عمليا، فالمخزن أخذ يسترجع المساحات التي أخذت منه، والأخطر من ذلك هي العودة الانتقامية من خلال سلب حتى الحقوق التي كانت موجودة قبل 20 فبراير خصوصا على مستوى الحريات السياسية وحرية الصحافة". الأوضاع الاجتماعية: محرك الاحتجاجات ولا يمكن الحديث عن العشرية التالية لحراك 20 فبراير دون الوقوف عند الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، التي كانت وقود الحراكات الموالية في عدة مناطق بالمغرب، وتسببت في صدام مباشر بين الناقمين على تردي تلك الأوضاع من جهة وبين السلطات، وتعليقا على ذلك يقول محمد جبرون، إن هناك "عوامل كبرى ماكرو-اقتصادية تحدد المكتسبات أو الخسائر الاجتماعية وفي هذا الجانب الأوضاع الاقتصادية للمغرب مرتبطة بالسوق الدولية وأسعار المواد الأولية والاستثمارات الأجنبية والداخلية، وعموما وتيرة النمو خلال العشرية الأخيرة لم تعرف قفزة كبيرة يمكنها أن تعطينا بعض الرفاه الاجتماعي المأمول". والمفارقة الملاحظة في هذا الإطار، حسب جبرون، هو أن شعارات محاربة الفساد التي كانت إحدى رهانات أو صرخات حراك 20 فبراير "لم يتحقق فيها الكثير، وتحديدا على مستوى مؤشرات الشفافية وتكافؤ الفرص ومحاربة الريع، إذ لا يمكن هنا الحديث عن حصول تغيير نوعي مقارنة بما كان قبل ذلك"، خالصا إلى أنه "الآن بعد 10 سنوات من الحراك لا يمكن القول إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة تحسنت كثيرا". ومن جانبه، يرى خالد البكاري أن الأوضاع الاجتماعية للمواطنين "صعبة جدا بدليل درجة الاحتقان الموجودة في المجتمع، وهي أوضاع مرتبطة باختيارات اقتصادية وسياسية منذ عقود، تكرس اقتصاد الريع والاقتصاد غير المنتج للثروة، الذي يعتمد في أحسن حالاته على قطاع الفلاحة التي تبقى متقلبة أو قطاع الخدمات الذي لا يستوعب اليد العاملة بشكل كبير، ثم عندما جاءت جائحة كورونا زادت أوضاع المواطنين استفحالا". والغريب في هذه الأوضاع الاجتماعية، حسب أستاذ التعليم العالي بمركز مهن التربية والتكوين بالدار البيضاء، هو أنه "إذا كان بعضها موروثا من مراحل سابقة، فإن البعض الآخر مرتبط باختيارات في العهد الحالي، بحيث كان يتم استنبات مشاريع كبرى في مناطق معينة، تؤدي إلى كوارث اجتماعية لاحقة لأنها لا تراعي الاقتصادات المحلية، والنموذج هو ما يقع اليوم في الفنيدق وقبله في جرادة وفي الريف والذي يمكن أن يمتد إلى مناطق أخرى". وأورد البكاري "صحيح أننا لسنا بلدا طاقيا، لكن هذه الحجة لم تعد مقنعة لأن أثمنة الطاقة في العالم انخفضت، في حين أن ما يعتمد عليه المغرب في مبادلاته الخارجية لم تعرف أسعاره انخفاضا، وهذا كان يجب أن ينعكس إيجابيا على المغرب، لذلك، فإن الأوضاع الاجتماعية للمغاربة ترتبط كذلك بالفساد البنيوي الذي لم تتخذ أي إجراءات حقيقية للقطع معه أو لمحاصرته على أقل تقدير". هذا الوضع الاجتماعي المحتقن هو الذي سيكون خميرة الاحتجاجات القادمة، والتي بدأت إرهاصاتها تظهر، وأظن أن الدولة بدأت تستشعر هذا الأمر من خلال تركيزها على هذا الجانب حيث تطرق المجلس الوزاري الأخير إلى السجل الاجتماعي وتعميم التغطية الصحية والالتقائية في البرامج الموجهة إلى محاربة الهشاشة"، خالصا إلى أن الوضع الاجتماعي بالمغرب يبقى "قنبلة موقوتة". أما جمال العسري فيقول إنه "لا يمكن إنكار وجود تغيير في الواقع الاجتماعي للمغاربة، لكنه يبقى بعيدا عما نحلم به، وهذا سببه يجري في المغرب هو عملية شاملة لسد الأقواس لم تنج منها النقابات التي كانت تطالب بتحسين الأوضاع والزيادة في الأجور". وتابع القيادي بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل "رأيي أن المخزن، الذي أوقف الحوار الثلاثي مع النقابات والزيادات في الأجور، ينتقم لإجباره على تقديم تنازلات خلال حراك 20 فبراير تمثلت في زيادة 600 درهم والموفقة على اتفاقية فاتح أبريل تحت ضغط مطالب النقابات حينها، والمخزن اعتبر وكأن النقابات ابتزته في لحظة كان في حاجة لها، لذلك فإن الملاحظ حاليا هو التراجع على جل بنود الاتفاقية واقتطاع الزيادة في الأجور بطرق أخرى، وصولا إلى حصار العمل النقابي الذي أدى إلى ظهور التنسيقيات في كل القطاعات، آخرها في التعليم والصحة، ثم ظهور معارك اقتصادية واجتماعية في مجموعة من المدن". والخطير في الأمر حاليا، حسب تعبير المتحدث نفسه، هو أن "النظام فقد الوساطة، وصار في مواجهة مع الشارع بعدما ابتعدت التنظيمات النقابية والأحزاب السياسية عن الصورة، لذلك فإن الاصطدام الآن صار بين الدولة والجماهير مباشرة، الشيء الذي أفرز ما أفرز قيادات محلية أكثر شراسة ومعارضة وجذرية ولا تحسن لغة الحوار، وهذا ما يشكل خطورة على الدولة". الواقع السياسي: لا جديد في الأفق وعلى الرغم من أن المطالب السياسية شكلت العمود الفقري لحركة 20 فبراير، انطلاقا من تغيير الدستور وحل الحكومة والبرلمان، إلا أنه على هذا المستوى يكاد يحصل إجماع بين جميع المتدخلين حول عدم وجود أي تقدم ملحوظ على أرض الواقع خلال السنوات العشر الماضية، وكتفسير لذلك يرى البكاري أنه "لم يتم استثمار لحظة 20 فبراير لتوسيع هوامش الحريات في اتجاه وضع لبنات تحول ديمقراطي تدريجي، بل العكس هو الذي حصل، وهذا لا يرتبط بمحاصرة الأصوات التي تشتغل خارج المؤسسات بل حتى الأصوات التي آمنت بأنه يمكن أن يكون هناك تغيير داخل المؤسسات إذ نرى أن الأحزاب السياسية والمؤسسات المنتخبة لم يعد لها أي دور بحيث تم السطو على اختصاصاتها". أما العسري فيرى أن الوضع السياسي العام لا يختلف عن وضع الشارع، "بحيث عدنا لمرحلة ما قبل 20 فبراير التي كانت تعرف تبشيرا بموت الفاعل السياسي والأحزاب السياسية والحياة الجديدة للعمل الجمعوي، لكن الحراك حينها أثبت أن السياسة في المغرب موجودة ولم تمت"، وأضاف "الآن تتكرر نفس الأسطوانة، لكن قتل الأحزاب السياسية حاليا صار يستهدف تلك المؤمنة بروح 20 فبراير والحاملة لمطالبها، فهذه أصبح يتعامل معها المخزن بمنطق الحصار.. حصار مناضليها وخطابها". ويقول القيادي في الحزب الاشتراكي الموحد "عموما خارج الأحزاب الإدارية هناك أحزاب وطنية منقسمة لنوعين، الأول استطاع المخزن تدجينه أو ترويضه وتحديدا الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم الاشتراكية ومؤخرا العدالة والتنمية، ولم تعد تختلف في الرؤى والمواقف مع الأحزاب الإدارية، والدليل على ذلك أننا خلال 10 سنوات نرى حكومة يختلط فيها الجميع بالإسلامي والشيوعي والإداري". أما الأحزاب التي "لم يستطع المخزن ترويضها"، يضيف المتحدث، فإنه "يعلم أنها تعاني من الضعف المالي الذي يؤثر في إمكانية وصول خطابها للناس، كون أن الضعف المالي يعني أنها مفتقرة لإعلام قوي، وفي الوقت نفسه الإعلام العمومي يغلق أبوابه في وجهها، وهذا حصار ذكي بيد حريرية، ينضاف إلى التضييق على الأنشطة من خلال الحرمان من التراخيص والقاعات، لدرجة أن هذه الأحزاب طبَّعت مع المنع ما ساهم في قص أجنحتها، يضاف إلى ذلك خطاب التشكيك في وطنية تلك الأحزاب عند محاولتها الدفاع عن نفسها". لكن وجب التنبيه أيضا إلى العوامل الذاتية، وفق العسري، فهذه الأحزاب "لا يمكنها تعليق كل شيء على شماعة المخزن، فهي لم تتخلص بعد من صراعاتها الداخلية، لكن عموما هذا كله لا يعني أن الأحزاب ماتت بل فقط تعيش حالة ركود طبيعية". دستور 2011.. ماذا تحقق عمليا؟ ولا يمكن الحديث عن حراك 20 فبراير دون الوصول إلى دستور فاتح يوليوز 2011، الذي أعقب الخطاب الملكي المتفاعل مع الحراك في 9 مارس من السنة نفسها، فالوثيقة الدستورية بتعبير الأكاديمي والباحث في الفكر السياسي محمد جبرون "هي بيت القصيد"، غير أنه يرى أن سقفها "كان أعلى بكثير من الواقع وما يطيقه، فالهندسة الدستورية تتكلم عن مؤسسة رئاسة الحكومة واختصاصات وصلاحيات رئيس الحكومة ومهام الوزراء دون تفاوت أو على قدر من المساواة والمسؤولية، ولكن عمليا الممارسة مفارقة تماما لهذا الأفق الدستوري، فمثلا لا زلنا نتكلم عن وزارات السيادة وعن اختصاصات رئيس الحكومة التي لا تمارس بالشكل المطلوب وغيرها من الأمور". وتابع جبرون "يمكن القول إن الدستور لحد الآن لا زال لم يُنفذ من الناحية الديمقراطية، كون أن أُفُقه الديمقراطي أكبر بكثير من الممارسة الكائنة على أرض الواقع، والمرتبطة بالظروف والقوى سياسية الموجودة في البلد، وأيضا بإرادة هذه الأخيرة ومدى رغبتها في الدَّمَقْرَطَة أم أنها تعتبر كل ما سلف مجرد شكليات لا أقل ولا أكثر". أما خارد البكاري فيعتقد أن التعديلات الدستورية لسنة 2011 "رغم أنها لم تُلب طموحات حركة 20 فبراير ولا طموحات كل من يسعى إلى دولة ديمقراطية في المغرب، إلا أن الدستور كان متقدما مع ما سبقه وكانت فيه العديد من النقاط الإيجابية التي كان من الممكن البناء عليها من أجل تعديلات مستقبلية تجيب على سؤال التحول الديمقراطي". لكن الذي وقع، حسب حديث الناشط الحقوقي، هو أنه "تم اعتماد التدرج في البداية ولم يكن هناك احترام لروح الدستوري، إذ كان يجري الاعتماد على تأويل النصوص الدستورية تأويلا ضيقا ينتصر لروح الدستور القديم أكثر من انتصاره لروح الدستور الجديد، ثم بعد ذلك جرى تجاوز الدستور الحالي تماما، إذ هناك محطات كثيرة لم تم فيها احترام النص الدستوري". ويشدد البكاري على أن "المشكلة في المغرب ليست مشكلة نصوص، نعم نحتاج لدستور أفضل من هذا، لكن المشكلة الأكبر في الإرادة السياسية لتفعيل النصوص القانونية، لذلك فإنه حتى لو تم تجويد النص الدستوري والقانون الجنائي فإن غياب الإرادة السياسية يفقد هذه العملية الجدوى المطلوبة لأن ما هو ممارس عمليا على أرض الواقع إما فيه خرق للدستور والقانون أو فيه انتقائية في تطبيقهما، ولننظر مثلا إلى التساهل الكبير في ملاحقة ناهبي المال العام ثم في تشددها في متابعة الصحافيين والمدونين والمعارضين رغم أن النصوص واحدة". ويضيف "نلاحظ مثلا أنه في ظل دستور 1996 الذي طبع المرحلة الأخيرة من حكم الملك الحسن الثاني والمرحلة الأولى من حكم الملك محمد السادس، وبفعل عوامل سياسية داخلية وخارجية، كان هناك حضور للتشاور مع الفرقاء السياسيين والاجتماعيين وهامش صغير للتحرك، لكن أمام الدستور الحالي الذي يقال إنه قسم الاختصاصات بين المؤسسة الملكية والحكومية يبدو جليا أن أدوار المؤسسة الملكية تظهر في الواقع أكثر من أدوار أي مؤسسة أخرى، فإذا ما قارنا مثلا حكومة سعد الدين العثماني مع حكومة عبد الرحمن اليوسفي التي عملت في مرحلة الدستور السابق نلاحظ أن الحكومة الحالية أضعف"، ليخلص إلى أن النصوص الدستورية والقانونية على أهميتها في المغرب "يمكن إفراغها من محتواها إذا لم تكن هناك رغبة سياسية للدفع بها نحو اطلاعها بأدوارها في إحداث تحول ديمقراطي". أما جمال العسري فيُذكر بأن الحزب الاشتراكي الموحد الذي ينتمي إليه "قاطع التصويت على دستور 2011 وحتى اللجنة التي صاغته، والقول إننا نرغب في دستور أفضل هو تحصيل حاصل، ولا زلنا عند مطلبنا بدستور ديمقراطي ينص على ملكية برلمانية يسود فيها الملك ولا يحكم"، لكنه رغم ذلك يرى أن الدستور الحالي "بعلاته وبنقاطه المضيئة لم يتم تنزيله، بل إن نصوصا منه تم رميها في سلة المهملات، ومن يخرق الدستور حاليا هي الجهات التي وضعته ومن المفروض فيها حمايته وليس من قاطعوه". وكخلاصة لمصير الوثيقة الدستورية يقول السياسي اليساري "لن نذهب بعيدا، إعفاءُ عبد الإله بنكيران مثلا من تشكيل الحكومة ليس دستوريا، كون الوثيقة الدستورية لا تنص على ذلك، أيضا فيما يتعلق بقضية تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، نجد وزارة الخارجية التي عملت على هذا الاتفاق تابعة دستوريا للحكومة ولا يوجد نص دستوري أو تنظيمي يصنفها ضمن وزارات السيادة، لكنها اشتغلت على الملف دون علم رئيس الحكومة سعد العثماني حسب قوله، رغم أن هذا الأمر من اختصاصه".