لا يفوتني في بداية هذا المقال أن أؤكد أن كل إشارة للجزائر ليس المقصود منها الشعب الجزائري وإنما القصد طبقة معينة من النظام العسكري المتمكن من القرار السياسي في الجارة الشرقية. ويأتي هذا المقال من وجهة نظري ليوضح اللبس الحاصل لدى العديد من متتبعي ملف الصحراء وبعض من انساقوا وراء أكذوبة دفاع النظام العسكري عن حرية الشعوب وحركات التحرر. وهو الحق الذي أريد به الباطل وهو السبب الذي يمزق أشلاء الشعوب المغاربية ويحول دون تكاملها الاقتصادي وحربها ضد الفقر والأوبئة وهو كذلك المانع من تحقيقها لمبتغى النمو والازدهار. مباشرة بعد توقيع الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب على قرار الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، تناسلت عدة نظريات وتحليلات وأفكار تصب في خانة تسفيه هذا القرار، وتحركت الدبلوماسية الجزائرية بكل ثقلها مراهنة على إمكانية تراجع إدارة جوزيف بايدن عن هذا الاعتراف. كما تحركت الآلة الدعائية الجزائرية وجيشت أسوأ كتاب السيناريو وأبلد المخرجين، لحبك وترويج مقاطع فيديو قصيرة تتحدث عن اندلاع الحرب بين ميلشيات البوليساريو والقوات المسلحة المغربية. فنقلت صورا مفبركة عن معارك طاحنة مستقية عباراتها من معجم حروب الإعلام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. قلنا لا بأس فكل ضعيف يلجأ مضطرا للخيال ليُرَوِحَ عن نفسه قليلا.. فالطفل الصغير الذي يضربه أقرانه الأقوياء بالمدرسة يعود الى بيته باكيا، لكن وبدل أن يشتكي لوالده - خوفا من أن يعاقبه على المشاجرة - يتخيل هذا الطفل أنه تحول إلى عملاق قوي وبعضلات ضخمة وأنه عاد للمدرسة وضرب أقرانه الكبار وأسقطهم على الأرض الواحد تلو الآخر وأن صواريخه سقطت بمعبر الكرارات وأنه اعتقل عشرات الجنود والضباط المغاربة.... أعتذر من القارئ الكريم لقد اختلطت علي أوهام الطفل الصغير مع شريط سينمائي هندي قديم. لكن وبعيدا عن الأوهام وأمام تصريحات بعض المنابر الإعلامية الجزائرية ومثيلتها التابعة للبوليساريو. وتأكيدها الرسمي المستمر أنها لم تعد معنية بالهدنة مع المغرب وأنها تخوض ما تسميه بحرب الكفاح المسلح. واستنادا على هذه التصريحات ألا يجوز للمغرب أن يقول بأن جنرالات الجزائر قد أعلنوا حربا بالنيابة عليه؟ وإلا فمن أين للبوليساريو المال ليشتري الدبابات والراجمات والصواريخ؟ وهو الذي يتسول المساعدات من كل المنظمات الإنسانية. وهل تملك قيادة الجبهة، التي تستعبد الشيوخ والنساء والأطفال في مخيمات الاحتجاز، ميزانية تسمح لها بالدخول في سباق التسلح.؟! لكن دعنا نفترض عبثا أن جنرالات الجزائر أبرياء من تهمة تسليح البوليساريو وأن هؤلاء يحصلون على أسلحتهم من جهات غير معروفة. لماذا لا نرى هذه (الجهات الغير معروفة) تدافع عن طروحاتهم أمام المنتظم الدولي.؟ بل الدبلوماسية الجزائرية هي وحدها من تتولى هذه المهمة. ثم هل يستطيع جنرالات الجزائر أن يقدموا للعالم ما يكفي من الضمانات بأن إيواء مليشيات البوليساريو فوق تراب يخضع لإدارتهم لا يشكل خطرا على أمن وسلامة دول الجوار وأمن وسلامة مصالح الدول التي باتت تتوفر على مقرات دبلوماسية في الصحراء المغربية. أنا لم أختلق أي شيء من وحي خيالي.. فالإعلام الجزائري هو من أكد قيام البوليساريو بهجمات على معبر الكركارات والفيديوهات التي بثتها قنواتهم موجودة. والبيانات الحربية التي أصدرها البوليساريو موجودة. هل يا ترى يستحسن أن تنقل الدول الأجنبية ومن بينها الولاياتالمتحدة بعثاتها الدبلوماسية إلى عرض المحيط الأطلسي كي لا تطالها (صواريخ البوليساريو العابرة للقارات)؟!! وهل يجب أن يحذر المغرب المستثمرين الأجانب بأن أموالهم لن تكون في مأمن بالصحراء نظرا لوجود مليشيات إرهابية مسلحة بالمناطق الخاضعة للإدارة الجزائرية؟ هنا يكمن بيت القصيد وهذا هو هدف من يختبأ وراء اكذوبة البوليساريو إذ الأمر لا يخلو من خبث ومكر ممزوج بالكراهية. إن جنرالات الجزائر يبذلون ما في وسعهم لكي يُضفوا على المنطقة صفة عدم الاستقرار. لأن عدم الاستقرار لا يتعايش مع الاستثمار الأجنبي ولا حتى الوطني. فورطة جنرالات الجزائر أنهم لا يستطيعون تقديم ضمانات للمغرب والعالم بأن صنيعتهم البوليساريو لا تشكل تهديدا على مصالح المغرب وشركائه وبالتالي لم يعد أمامهم خيار آخر سوى الاعتراف بأن البوليساريو هو مجرد وَهم وكذبة وأنه لا يوجد أي خطر يخشى من جانبه. وأن مقولة دعم حركات التحرر كانت ولا تزال مجرد غطاء لتبرير استمرارهم في استنزاف خيرات الشعب الجزائري. لم يعد أمامهم سوى خيار الجلوس على طاولة التفاوض مع المغرب وطرح مطالبهم -التي لا أعرفها شخصيا- والعمل على إيجاد حل سلمي لهذا المشكل المختلق منذ عقود. لكن لربما يختار جنرالات شنقريحة التشبث بأنهم هم بالفعل هم من يسلح البوليساريو وهم من يرعاه وبالتالي يتحملون المسؤولية الكاملة ونتائج كل ما يقوم به من قتل وخطف واحتجاز وزعزعة لأمن وسلام المنطقة برمتها وليس الصحراء فقط. ويعلنون للعالم صراحة أنهم حولوا الجزائر إلى دولة راعية للإرهاب. إن مصالح النظام العسكري الجزائري تكمن في تشبثه بالمواقف التالية: * خلق مناخ عدم استقرار وانعدام الأمن في المنطقة لتبرير استمرارهم في التحكم بثروات الشعب الجزائري. * منح البوليساريو صفة الحكم الذاتي بمنطقة تندوف (بالصحراء الشرقية المغربية المتنازع عليها). وعرقلة مشروع الحكم الذاتي المغربي تحت السيادة المغربية. * عرقلة النمو الاقتصادي في الصحراء والتلويح بخيار الحرب لطرد رؤوس الأموال والمستثمرين الأجانب. * قطع الطريق البري الرابط بين المغرب وإفريقيا وخنقه تجاريا وهو الرهان الذي باء بالشل بمعبر الكركارات. وأمام استحالة أن ينجح هذا المخطط في انتاج حل سياسي عادل ومرضي لكل الأطراف لن أستغرب لو تحرك المغرب نحو: تحييد المناطق الكائنة شرق الجدار الأمني والاستمرار في تحميل الجزائر وليس البوليساريو مسؤولية أي عمل تخريبي يأتيه من هذه الميلشيات. * التنسيق مع القوى العظمى والمنظمات الإنسانية لفك الحصار عن المحتجزين في تندوف. * مطالبة المنتظم الدولي بتفكيك مليشيات البوليساريو ونزع سلاحها حفاظا على أمن وسلامة المنطقة. * اعتبار البوليساريو منظمة إرهابية والدولة التي تحتضنها دولة راعية ومحتضنة للإرهاب. * توسيع مشروع الجهوية المتقدمة وإقراره كحل نهائي لا بديل للمغرب عنه لقضية الصحراء في ظل تعنت الطرف الآخر. خيارات لا تبدو كثيرة ومتنوعة أمام جنرالات الجارة الشرقية. وكيف لهم أن يبرروا مطالبتهم إدارة الرئيس الأميركي الجديد بسحب الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء فقد يأتيهم الجواب بلغة دارجة صريحة وربما غير مؤدبة مثل: * وانت مال مك؟ أو بعامية مصرية أكثر فصاحة * انت مال أُمَك.. وربما يأتيهم الجواب سياسي فيه الكثير من الإحراج مثل: * ألم تقولوا بأنكم لستم طرفا في الصراع؟ وبأنكم تحاربون الإرهاب؟ إذن لا دخل لكم في اعترافنا بسيادة دولة صديقة على أراضيها. بل نحن من يجب أن يطالبكم بتوضيح موقفكم تجاه حركة إرهابية مسلحة في منطقة تخضع لإدارتكم. *كاتب صحفي ودبلوماسي سابق Twitter: @Msaidouafi