[email protected] صادق طفل صغير في عمر الزهور. يذهب كل يوم الى الكتاب. قبل الدخول يمر خلف المسجد ليخبىء قطعة من خبز أو حلوى. يغرسها في ثقب على الجدار، لأن كل ما يأخذه معه إلى الداخل ينهبه التلاميذ الأكبرمنه سنا وقوة. يبدأ نهاره بتقبيل يد الفقيه ثم يأخذ اللّوح الذي كتب عليه آيات من القرآن الكريم بصمخ بنيّ يتتبع في كتابتها “حناشات” الفقيه الذي يستعمل في كتابته قلم الرصاص. الأطفال هنا في الكتاب يتعلمون من البداية احترام الآخرين، عن طريق إذلالهم. –”قبل أن يكبروا و يُخرجوا القرون”-. التواصل الأولي بين الآباء و الفقيه يلخص في كلمات من قبيل “شك نغ نش أضندلغ” ما معناه: “أنت أقتل وأنا أدفن” أو “شك غرس نش أذسلخغ” ما معناه: “أنت إذبح و انا أسلخ”. بهذا يمنح الفقيه سلطة مطلقة وشمولية، على غرار الحكم السائد في البلاد. يقبلون يد الفقيه الذي يكرهونه أكثر من كرههم للأبطال الأشرار في حكايات الزمن الغابر. خرافات تجود بها ذاكرة الجدات الحنونات. ما أجمل أن تخلد الى حضن جدتك أو تتوسد فخذها الدافئ وهي تحكي لك خرافات “زْمان”. تداعب شعر رأسك بلطف، لتحس بقشعريرة لذيذة، تجعلك تشعر بعدها بالدفء والحب وبالأمان والحنان. تأخذك معها في أسفار خيالية كلها أخطار و رجولة وبطولات، أو حكايات ملؤها الذكاء والحنكة والحكمة. صادق يكره الفرق بين ليل يلجأ فيه الى حِجر جدته الحنون، ونهار في حضرة الفقيه صاحب الوجه العبوس، الذي لا تفارق العصا الطويلة يده اليمنى ؛ يهش بها على الأطفال كما يهش الراعي على غنمه. لا حظّ لصادق في النطق بكلمة غير الهمهمة بكلمات القرآن الكريم التي لا يفقه معناها. في البيت يستمع الى الخرافات بصوت جدته الأمازيغي العذب، الذي يلقى طريقا مستقيما الى قلبه الصغير. تمنى لو كانت جدته فقيهة تعلمه القرآن وتقيه شر هذا الفقيه القاسي قلبه. يجاهد صادق نفسه في حفظ الآيات االتي يكتبها على لوحه ليمحوها بعد نقشها في ذاكرته الصغيرة. منافسا أقرانه بمحو لوحه كل يوم ليغسله بالماء ثم يطليه بالصلصال قبل ان ينشره في الشمس استعدادا لكتابة جديدة. يحب الأيام التي تغيب فيها الشمس لأنه يتمتع فيها بالدفء و بمنظر اللهب الذي تزفه النار التي يشعلونها قصد تجفيف الألواح. قرر صادق اليوم أن لا يذهب الى الكتاب. اختفى في عرينة صغيرة بين نبات الصبار المحيط بمنزله. انتظر هناك لساعات طويلة في وحدة قاتلة. ثم عاد الى منزله كأن شيئا لم يقع، بعدما رأى رفاقه خارجين من الكتاب. افتضح أمره لينال عقابا مزدوجا، في البيت و في الكتاب. ضرب وسلخ ترك علامات على جسمه النحيل. لم يسألوه عن الدافع وراء هذا الإضراب. لو سألوه لحكى لهم أنه يسير نصف طريق العودة من الكتاب حافي القدمين كل يوم. ليس لأنه لا يملك الحذاء المطاطي مثل أقرانه، لكن لأنه يحمل نعليه في يده ويخرج بسرعة البرق راكضا نحو منزله، لينجو بنفسه من الضرب الذي قد يتعرض له من قبل زملائه الذين يكبرونه سنا. لو سألوه لحكى لهم أنه أصبح يهاب الفقيه القاسي، ليس لأنه ضربه، لكن لأنه ضرب زميله حماد الذي “حُمِّل” من طرف تلميذين كبيرين والفقيه ينهال عليه ضربا على رجليه ومؤخرته بقساوه الى أن تبول في سرواله. الفقيه الذي ''فرشخ'' رأس زميله شعيب بعصاه. عندما انهال عليه ضربا و هو يصيح مزمجرا “أجميي اضنغغ لعذو مس لعذو” يقصد اتركوني أقتل عدوي ابن عدوي. تلطخت ثياب شعيب بالدم الذي سال من رأسه تاركا أثرا على محيى وجهه الدائري الجميل. قمة البشاعة والقسوه والإرهاب. هذه بعض حصص التعليم -عفوا التعذيب- الذي يتعرض له أطفال الكتاب، لتزرع في قلوبهم الرعب والشعور بعدم الاستقرار، إضافة إلى فقدان الثقة في فصيلة البشر. جدة صادق كانت قمة في الذكاء والإيمان. كانت تحب الله و الرسول والقرآن. الفقيه نال هو الآخر شيئا من حبها، لأنه يعلم الأطفال القرآن. نجحت الجدة الى حد بعيد في التصدي للعنف الذي قد يصدر من الفقيه تجاه حفيدها العزيز. كانت تقذفه من حين لاخر بوليمة فيها دجاجة او لحم خروف، تصيبه في بطنه لتشل يديه، وتنزع منه العدوانية، التي قد يتعرض لها صادق. الفقيه يتعامل بلطف بالغ مع الفتيات، خصوصا اللواتي برزت أنوثتهن. ينظر اليهن بحنان ويداعبهن كلما سنحت له الفرصة. تعجب صادق ثم تساءل عن السر وراء هذا الاختلاف في تعامل الفقيه. تمنى لو كان بنتا ليتقي شر هذا الحيوان المريب؛ لأنه لم يكن يتصور قيمة الاشمئزاز و الكراهية و الحيرة التي كانت تشعر بها الفتيات، بسبب هذا التسلط والتحرش القبيح من طرف الفقيه. وقت الخروج من الكتاب كان محددا في وصول ظل الجدار الى حَجَرةٍ بارزة في وسط البهو الداخلي للمسجد. ساعات طويلة يقضيها صادق شارد الذهن. يحلم فيها بالأوقات الجميلة في بستان أبيه. يلاعب كلبهم “غْزال”، أو منهمكا في اكتشاف أسرار الطبيعه. يتسلق الأشجار أو يحفر في التراب. يحن إلي وجبة العشاء الممزوجة بالحب، التي تحضرها أمه العزيزة. يحن الى حِجر جدته الحنون و حكاياتها. تمنى لو استطاع يوما أن يحكي لهم عن الاهوال و الأخطار وعن العنف و الاحتقار، التي يتعرض لها أطفال الدوار في الكتاب. كل دقيقة يرمي صادق بنظره نحو الساعة الشمسية، منتظرا وصول ظل الجدار إلى الحَجَرة اللعينة المعينة من طرف الفقية. No related posts. شارك هذا الموضوع مع أصدقائك Tweet