أحب أن أستهل كلامي في هذا الموضوع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا” صحيح….. إن مجتمعاتنا يطغى عليها طابع التبعية في كل شيء، حتى بدون معرفة السب أو الدافع وراء افعالها، دائما ما نسمع كلاما من قبيل “حنا معا الشعب” “لي درتوه رنا معاكم…”، بحيث انتفى التفكير العقلاني و البحث في الاسباب وحتى عدم الإكتراث بالنتائج الوخيمة لبعض الأعمال…،وهذا ما أصبح يولد لدينا إرهابا وتطرفا وغلوا وأفكارا متخلفة، بحيث يعتبر القائد أو الزعيم هو المفكر الوحيد، وغيره مستهلكون لهذه الأفكار، دون أن يكون لديهم الحق في انتقادها أو نقاشها أو حتى مجرد إبداء رأي حولها. وهنا أستحضر كلاما للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال لكميل بن زياد النخعي: ((يا كميل إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق … أفٍ لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن افتتن به وإن الخير كله من عرفه الله دينه وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه )) أضواء البيان الشنقيطي.(( وعن الإمام أحمد رحمه الله قال: ((ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعاً لم يكفر ولا يكونن أحدكم إمعة))، قيل: وما الإمعة؟، قال: ((الذي يقول: أنا مع الناس، إنه لا أُسوة في الشر)) (الإبانة لابن بطة)، وفي رواية قال: ((لا يَكُونُ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً))، قَالُوا: وَمَا الإِمَّعَةُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟، قَالَ: يَقُولُ: ((إِنَما أَنَا مَعَ النَّاسِ إِنِ اهْتَدَوا اهْتَدَيْتُ، وَإنْ ضَلُّوا ضَلَلْتُ، أَلا لَيُوَطِّنُ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ عَلَى إِنْ كَفَرَ النَّاسُ أَنْ لا يَكْفُر.)) لقد اصبحنا نقوم بامور عجيبة وغريبة سواء في الملبس أو في العمل أو حتى في الأفراح و المناسابات، لا لشيء سوى لإرضاء القطيع، حتى و إن كان هذا القطيع يسير بنا الى الهاوية أو المسلخ، فلا قدرة للفرد على مواجهته إلا بتشكيل قطيع اخر، وفي كلا الأمرين نكون تبعا لمبدأ القطيع ….. ولعل أجمل تصوير لهذه العقلية، هو ما قام به الأديب الكبير توفيق الحكيم في روايته (نهر الجنون) حيث بين أن القطيع هو الغالب في كل شيء، سواء أكان عاقلا أو مجنونا….بحيث أن الفرد الوحيد العاقل سيتخلى عن عقلانيته من أجل القطيع المجنون كي لا يعتبر منبوذا وخارجا عنه. هناك نظرية طريفة ولكنها بليغة جدا تعبر بشكل واضح عن مبدأ تحكم القطيع في تسيير الأمور بحسب ما يراه مناسبا، يطلق عليها نظرية القرود الخمسة، ويتجلى سناريو النظرية فيما يلي: أحضر خمسة قرود، وضعها في قفص !، وعلِّق في منتصف القفص حزمة موز، وضع تحتها سلماً. بعد مدة قصيرة ستجد أنَّ قرداً- لنسميه القرد أ- ما من المجموعة سيسارع كيما يرتقي السلم محاولاً الوصول إلى الموز. والآن !، كلما حاول القرد أ أنْ يلمس الموز، ينبغي عليك أن تطلق رشاشاً من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين في الأسفل وأرعبهم!! بعد قليل سيحاول قردٌ آخر -القرد ب- أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز، والمطلوب منك أن تكرر نفس العملية، رش القردة الباقين في الأسفل بالماء البارد. كرر العملية أكثر من مرة! بعد فترة ستجد أنه ما أن يحاول أي قرد أن يعتلي السلم للوصول إلى الموز ستمنعه المجموعة خوفاً من ألم الماء البارد.الآن، أبعد الماء البارد، وأخرج قرداً من الخمسة إلى خارج القفص، وضع مكانه قرداً جديداً- القرد س 1-، هذا القرد لم يعاصر حادثة الماء البارد، ولم يشاهد شيئاً مما جرى داخل القفص. سرعان ما سيذهب القرد س 1 إلى السلم لقطف الموز، حينها ستهب مجموعة القردة المرعوبة من ألم الماء البارد لمنعه وستهاجمه. ستجد أن القرد س 1 مستغرب من القرود، ولكن بعد أكثر من محاولة سيتعلم القرد س 1 أنه متى حاول قطف الموز فإنه سينال عقاباً قاسياً من مجتمعه لا يعرف سببه ولا يتبينه.الآن أخرج قرداً آخر ممن عاصر حوادث رش الماء البارد غير القرد س 1، وأدخل قرداً جديداً عوضا عنه، ليكن القرد س 2. ستجد أن نفس المشهد السابق يتكرر من جديد. القرد س 2 يذهب إلى الموز بكل برآءة وسذاجة، بينما القردة الباقية تنهال عليه ضرباً لمنعه. بما فيهم القرد س 1 على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء، ولا يدري لماذا يعاقبه أبناء مجتمعه، كل ما هنالك أنه تعلم أن لمس الموز يعني عقاب المجتمع. لذلك ستجده يشارك، ربما بحماس أكثر من غيره بكيل اللكمات والصفعات للقرد الجديد القرد س 2، وربما يعاقبه كي يشفي غليله من عقاب المجتمع له.استمر بتكرار نفس العملية، أخرج قرداً ممن عاصر حوادث رش الماء، وضع قرداً جديداً. النتيجة : سيتكرر الموقف. كرر هذا الأمر إلى أن تستبدل كل المجموعة القديمة الجيل الأول/القديم ممن تعرضوا لرش الماء حتى تستبدلهم بقرود جديدة! الجيل الثاني/الجديد في النهاية ستجد أن القردة ستستمر تنهال ضرباً على كل من يجرؤ على الاقتراب من سُلم الموز. لماذا ؟، لا أحد منهم يدري!!، لا أحد من أبناء المجتمع يدري حقيقة ما يجري، لكن هذا ما وجد المجتمع نفسه عليه منذ أن تَكَون !. على الإنسان أن يسأل نفسه حين يتصرف بسلوك ما. لماذا أتصرف هكذا ؟، حتى يتبين له مكامن الخطأ، ويتبين له السلوك الصحيح من السلوك الخاطيء، وهل كل ما يفعله الأول لا بد أن يفعله هو الاخر ؟ أم في الأمر تفصيل ؟. بقلم : لوكيلي زكرياء E-mail : [email protected]