هي ثورة يخوضها رجال التعليم المجازين في الرباط، ثورة هادئة ضد التهميش، و التلاعب بمصالح المدرسين عامة، ومن التسرع أن يقال إن هذا الإضراب وهذا الاعتصام المفتوح بالرباط أفرزته أوضاع الثورتين في تونس ومصر الشقيقتين، فملف المجازين وحاملي الشواهد العليا، من الملفات التي تقادمت في دهاليز وزارة التربية الوطنية، وهذا الإضراب وهذا الاعتصام أقل ما يمكن أن يفعله كثير من رجال التعليم الذين ظلموا أشر ظلم، وأهينوا أقبح إهانة، ليس هذا كلاما حماسيا فارغا من أي إحساس صادق، بل الأمر أعمق مما سيتصوره البعض. فإذا كان المدرسون عامة ممتعضون مما آلت إليه أوضاعهم المادية، وظروف عملهم المزرية، فإن هناك فئة أشد امتعاضا من نهج تعامل المسؤولين مع مطالبها، ومن هؤلاء فئة المجازين، وفئة الحاصلين على شواهد عليا. أعود فأقول إن هناك امتعاضا حقيقا وضجرا صٌرَاحًا يسريان في عروق المدرسين، ولا دليل أقوى من هذا الإضراب المفتوح، و هو قرار اتخذته تنسيقية المجازين، بعدما أعلنت وزارة التربية الوطنية عن “مباراة” لترقية حاملي الإجازة إلى السلم العاشر، ستجرى في السادس والعشرين من هذا الشهر(26-02-2011). فالمجازون رأوا أن هذه المباراة إقصائية، لأنها ستكرس التمييز بين موظفين حاصلين على الشهادة نفسها، ثم إن المباراة بهذا الشكل ستكرس نهج الزبونية والمحسوبية. ونهج الزبونية والمحسوبية في كل مكان وفي كل زمان، حتى صار مألوفا لا يثير أي تململ… قلت إن حج المجازين والمجازات إلى الرباط من مناطق نائية، وافتراشهم مدخل الوزارة المزفّت، لأقوى دليل على إحساس سيء حرك هؤلاء وأجبرهم على اتخاذ هذا السبيل للترقية، إن السفر من وجدة ومراكش وسوس ماسة درعة مثلا، والتشرد في أزقة وشوارع الرباط…مظاهر كافية ليفهم الفاهمون أن “السيل قد بلغ الزبى”. إن منظر هؤلاء المجازين والمجازات، يثير مشاعر غريبة، مشاعر الاعتزاز والفخر ومشاعر الأسى والإحباط والمهانة في الآن نفسه… المدرسون جميعهم لن يستغربوا أن يتجشم المدرسون والمدرسات عناء السفر الطويل، ليقفوا أمام وزارتهم، لأنهم بكل بساطة يشعرون بمثل ما يشعر به هؤلاء، لكن المتتبعون من بعيد، البعيدون عن الميدان ميدان التدريس، قد يستخفون ويستهجنون هذا الشكل النضالي. لأنهم ما زالوا متشبثين بتمثلاتهم القديمة الخاطئة عن المدرس المغربي؛ المدرس موظف ميسور، محترم، منعَّم… إن إضراب المجازين ثورة هادئة، تكشف أن الشباب المغربي – والمجازون المضربون شباب حصلوا على الإجازة سنوات 2008 و 2009 و 2010- ليس راضيا عن وضعه، المجازون يطالبون بتحسين أجورهم عن طريق الترقية بالشهادة، وهي الوسيلة الحيلة التي تسعف أو كانت تسعف المدرسين على الخروج من ” زنزانة 9″. تأمل هذا المصطلح ” زنزانة9″ تجده تعبيرا قويا عن مدى الضيق المادي والمعنوي الذي يعيشه أصحاب “الزنزانة 9″، ويقصدون به السلم التاسع، (3500درهم تقريبا )، فماذا تعني 3500درهم غير الضيق والشدة، فصاحب “الزنزانة9″، مفروض عليه أن يتحرك تحركا محدودا في الزمان والمكان، بمعنى أن صاحب “الزنزانة9″ ينبغي ألا يتجاوز الحدود في العيش، عليه أن يعيش عيشا محدودا في الخبز اليابس والشاي الأخضر والماء والكهرباء والكراء، ثم عليه أن يعيش في مكان محدود معزول؛ في القرى النائية، أوفي المدن الهامشية، وهل يليق هذا العيش بالأستاذ؟ هذا الكلام الأخير أيضا ليس مبالغة، فلو قارنت بين أجر “الزنزانة رقم9″ ونفقات الحياة الضرورية، والأسعار التي تجري جريا، والزيادة في الأجور التي تحبو حبوا لرأيت بأم عينك أن السلم 9 فعلا زنزانة. وإذا تناسينا هذا وذاك، وتأملنا الظروف الأخرى التي أججت هذا الاحتجاج، لاتضح أن اعتصام المجازين أمر طبيعي جدا، بل هو استجابة ضمنية لتصرف مجنون، فتوظيف توظيفا مباشرا حاملي الإجازة بالسلم العاشر، والتنكر لمدرس قضى سنة في التكوين، وسنوات تدريس طوال في البوادي، ثم واصل دراسته، فحصل على الإجازة، ظلم واحتقار وإهمال، وكذلك الشأن بالنسبة لحاملي الشواهد العليا، توظيف مباشر=السلم11، توظيف رسمي=السلم 9 أو 10 / والشهادة واحدة… !!!!!! قد يقول البعض إن هؤلاء انتهازيون يريدون الترقي دون مباراة، وقد يقول الآخرون ما علاقة الشهادة بالمردودية، وقد يقول أناس وما قيمة هذه الشهادة التي نيلت بميزة مقبول…؟ وأظن أن كل هذا ليس بابه، فالمدرسون المجازون يطالبون بحق هو الحق في العيش الكريم، وما دامت “الزنزانة9″ لا تحقق العيش الكريم، فالترقية إلى السلم العاشر حق وليس امتيازا، ولما لم يكن هناك طريق آخر لهذا الغرض المشروع غير الشهادة، الحيلة إلى الترقية، فها قد حصلت عليها. وقد يكون من السذاجة أن تُقرَأَ ثورة المجازين الشباب قراءة مادية خُبزِية، ففي الشعارات التي رفعت إشارات قوية إلى أن الأمر أوسع من الخبز، مع أن المطالبة بالخبز ليس عيبا، فلا شك أن المدرسين مستاؤون من أمور كثيرة، يضيق المجال لبسطها هنا. ومما لا يختلف فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان أنها ثورة على المركزيات النقابية، فقد كشف هؤلاء أقنعة وبدت الوجوه على حقيقتها عارية… لقد أدركوا أن التعويل على النقابات بات سذاجة، ومن يتأمل أشكال تنظيم بعض فئات المدرسين، يزداد ثقة أن هناك فقدان ثقة في المركزيات النقابية، فقد كثرت المنسقيات والتنسيقيات في السنوات الأخيرة، و هذا شكل من أشكال التعويل على النفس، حتى وإن كان تحت غطاء نقابي. الكلام عن النقابات ذو شجون، لكن لسان الحال أبين من المقال، ولسان حال المدرسين المجازين يكفي، إن مثل هذا الشباب لقادر على مواجهة مظاهر الفساد الذي ينخر جسد تعليمنا، إن هذا الشباب إذا استطاع يوما أن يثور ضد إنجاح المتعلمين بنقطة 3/10، أو 6/20، وإذا استطاع أن يثور ضد انتقال مدرس مشبوه…وإذا استطاع أن يثور ضد التستر على المناصب الشاغرة التي لا تظهر إلا حين تمضي الحركات الانتقالية الوطنية والجهوية…فاعلم أن أمر التعليم سيستقيم.