[email protected] مقدمة: تعرف منطقة الريف انتعاشا ملحوظا في مجال الكتابة الروائية كما وكيفا، وقد ظهر كثير من الروائيين الريفيين الذين يكتبون باللغة العربية عن قضايا كثيرة متنوعة ومتشعبة، مثل: الهوية، والكينونة الأمازيغية، والهجرة، وجدلية الأنا والآخر، والفقر، والتهميش، واسترجاع الذاكرة والتاريخ، والحديث عن الإنسية الأمازيغية، ورصد التجارب الذاتية والرومانسية في علاقتها بالتجارب الموضوعية. بل ثمة مجموعة من الروايات التي اختارت أشكالا سردية متنوعة، مثل: القالب البيكارسكي، والقالب التاريخي، والقالب السياسي، والقالب الأوطبيوغرافي، والقالب التراثي، والقالب الواقعي، والقالب الشاعري، والقالب الفانطاستيكي… ومن أهم الروائيين بمنطقة الريف لابد من استحضار كل من: محمد شكري، وعمرو والقاضي، وعبد الواحد عرجوني، وميمون الكبداني، وحسين الطاهري، ومصطفى الحسني، وحسن محمد الحسني، وميمون الحسني، وفوزية القادري، وعبد الحكيم معيوة، وأشهبار المتقي، ومصطفى الحمداوي، وإسماعيل العثماني، وسمية البوغافرية، ومحمد أرغم، وأحمد أبابري، وخالد قدومي، وعبد السلام فزازي، وأحمد المخلوفي،وعباس خليفي، وبشير القمري… ̧ جدلية الأنا والآخر: تندرج رواية (العودة) لميمون الحسني ضمن رواية الأنا والآخر1؛ إذ يتقابل فيها العالم الأمازيغي المسلم والعالم الغربي المسيحي. وتنماز الرواية العربية منذ ظهورها في أواسط القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا بتجسيد ثنائية الأنا والآخر، وذلك عبر مجموعة من الرؤى والأنماط والصور المتقابلة، سواء أكانت سلبية أم إيجابية، تترجم لنا ثنائية الشرق والغرب ، وثنائية الذكورة والأنوثة، وثنائية التقدم والتخلف، وثنائية العلم والجهل، وثنائية المادة والروح… هذا، وقد مرت الرواية الحضارية أو الرواية التي تترجم لنا علاقة الأنا بالآخر بمجموعة من المراحل التاريخية. وهكذا، فقد انتقلت هذه الرواية من رؤية سياحية انبهارية سلبية في فترة القرن التاسع عشر الميلادي مع كتاب مجموعة من الرحلات السفارية ذات التوجه السياحي والاستطلاعي(رفاعة الطهطاوي- مثلا-)، إلى رؤية علمية انبهارية إيجابية وانتقادية تشكلت في العقود الأولى من القرن العشرين ، وذلك مع جيل من الكتاب الذين سافروا إلى الخارج لطلب العلم، كطه حسين، وتوفيق الحكيم، ويحيي حقي، ويوسف إدريس ، وسهيل إدريس…وآخرين. إلا أنهم لم ينبهروا بالغرب إلى درجة السذاجة السطحية، والاستغراب الخارق الفاتن، بل تنبهوا إلى أسباب تقدم الغرب ماديا وتقنيا وعلميا وثقافيا وفنيا، ولكنهم تنبهوا أيضا إلى قيمة الشرق، وتميزه على مستوى القيم الدينية والروحانية، مع الدفاع عن شرقيته، و أصالته، وعاداته، وأعرافه، وتقاليده،وحضارته. والمقصود من كل هذا أن كثيرا من المثقفين العرب قد انبهروا أيما انبهار بحضارة الغرب إعجابا وافتتانا وغواية، فانساقوا وراء نزواتهم الشعورية واللاشعورية. وبالتالي، كانت رؤيتهم للغرب على أنه رمز للحرية والعلم والتقدم والإشباع الغريزي لكل المكبوتات الظاهرة والدفينة. ولكنهم سرعان ما استيقظوا من سباتهم ، ليتعرفوا حقيقة الغرب المادي، باعتباره فضاء حضاريا مخالفا عقديا وقيميا ودينيا وأخلاقيا واجتماعيا وثقافيا عن الفضاء الشرقي الروحاني. وأن لكل بيئة مقوماتها الخاصة ماديا ومعنويا، فالشرق شرق، والغرب غرب. وهذا ما عبرت عنه الكثير من الروايات العربية بشكل واضح وجلي، كرواية ” الحي اللاتيني” لسهيل إدريس2، و” موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح 3، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم 4، و”الأيام” لطه حسين 5، و” قنديل أم هاشم” ليحيى حقي6. ومن هنا، نجد هذا الانبهار الانتقادي واضحا في رواية (العودة) لميمون الحسني، حينما يقابل السارد بين مهدي وعشيقتيه: ماريان وصوفي. وفي هذا الصدد، يقول السارد:” كيف للمرء أن يكون مسلما مؤمنا تحت ضلال الغرب و حضارته المزيفة، بالرغم من جاذبيتها، بعد أن ضاع الشاب في انتظار أن تتحسن أحواله المادية…؟ كيف للمرء أن يخرج، ورأسه عالية، وهو يهمس للمارة “أنا مسلم بغا تيكون”كما يقال، فهناك المسيحي (بغا تيكون) وغير (بغا تيكون)، والمسلم كذلك تعود أهل الغرب إلقاء هذا السؤال المحرج المتعلق بسره الدفين “بغا تيكون” أو غير بغا تيكون، وبدون تردد ترى مهدي يرد: - أنا مسلم وكفى … وكان بجانبه صهره ،أب مريان ، يقهقه، وهو يضيف : - كل هذه الديانات ستنتهي في يوم ما ، و ستدفن كل هذه الطقوس في أقصى زاوية في الأرض، نحن كذلك فعلنا ذلك ، آباؤنا كانوا مسيحيين، والآن تخلصنا من كل هذا، و لا نعرف عن الدين المسيحي إلا الاسم واللقب، و بعض الحفلات الرمزية كنهاية السنة الميلادية مثلا. و ضحكت زوجته، وتدخلت قائلة : - لكل بني آدم ديانتهم، وما علينا إلا احترام ديانة الآخرين، أن نكون مسلمين أو مسيحيين لا يهم أيها السادة، المهم هو مدى احترامنا لغيرنا، ولأنفسنا، وصداقتنا ، و صدق عواطفنا… وبعد ذلك، ساد صمت عميق، و كان مهدي يرنو إلى قطته الحزينة، وهي تنتظر قطعة خبز أو لحم، وابنه الصغير صفوان يجرها جرا ، و هو يعاتب نفسه: لماذا كذب عليهم، و على نفسه ، وهو على أبواب رمضان… وما الفائدة من الاختفاء عن الأنظار؟ ” هذا، و تحمل رواية (العودة) لميمون الحسني في طياتها رؤية انبهارية موضوعية تجاه الحضارة الغربية، قوامها احترام الإنسان على صعيد الحقوق والحريات العامة والخاصة. كما ينظر إليها نظرة إيجابية، عندما يعتبرها أس التقدم العلمي والتكنولوجي والرفاه المادي في العالم. ومن جهة أخرى، تنبني هذه العلاقة على الاختلاف والتباين الحضاري والديني والعقدي:”- لقد حان موعد الإفطار، أغلقت نافدة المطبخ خوفا من الجيران، وأخذت تتكلم لوحدها عن عدد المعدلات الحرارية لطعام الفطور، و كثرة ما يسمن المسلمون في رمضان ، ثم عن نشرة الأخبار، وأحوال الطقس، تحدثت عن رواية (سلمان رشدي) المسيئة لنبي هاته الأمة، والضجة التي قامت حول روايته، و عن جهلها لحياة النبي، ورسالته ، واحترامها لكل الديانات . - و ما ديانتك يا صوفي… مجرد خرافات: اللباس و الجنس و الخروج والدخول و السيارات الفاخرة و كل أنواع وسائل الترفيه… أليست هذه ديانة ؟ - إن هجرتي ليست من أجل الجري وراء مادية العالم الغربي، بل كانت من أجل طلب العلم، و الاحتكاك بأهل الغرب، ثم العودة يوما إلى بلدتي … و شاءت الظروف و الأقدار أن أمكث هنا… - فهل حضارتكم خير من حضارتنا يا مهدي…؟ - أبداً.. إن سلوك كل كائن حي و ما لديه من مبادئ هو الخير كله، و إما الشر كله… أنت تعرفين أنني ضد كل المتطرفين الذين تركنا لهم المجال خاليا..” وهكذا، تشير الرواية إلى الصراع الحضاري الجدلي بين التقدم والتخلف، والشرق والغرب، والعقيدة والإلحاد، والإيمان والشهوة: ” كان مهدي قد قرر الانفصال عن مريان مند شهرين، وأصبح لا يراها إلا قليلا للاعتناء بابنه الوحيد، و اتخذ لنفسه شقة صغيرة في وسط المدينة. لكن زيارات (صوفي) أصبحت تضايقه كثيرا، فكيف له أن يواجه هاته المرأة الجميلة، وهو في عزلته الكبيرة..؟ كانت تجلس بجانبه، تخرج سيجارتها، و تنهمك في شرب فنجان القهوة… فوضع مهدي يده على فمها، ثم أخرجها إلى الحمام، فأعانها على غسل وجهها، ثم خلع نعليها ،وتعمدت الغثيان فجرها إليه جرا.. نحن في رمضان ، ولو كنت في أقصى الأرض تحت شمس محرقة، والماء البارد يتدفق حولي، فلن أذوقه إلا عند الغروب ، و إن كنت جائعا كالذئب الجريح، فلن أمغض قطعة خبز و لا شواء غزلان البراري. - ألسنا في رمضان يا صوفي… أنسيت ذلك ..؟ إنك حقا لا تحترمين أي أحد! - دع عنك كل هذه الطقوس و العادات البالية، و اقترب مني و إلا ستفقدني إلى الأبد أيها الغبي! ألم تقل كما قال شاعركم: ( اليوم خمر و غد أمر !) - لا يا صوفي! فها هو الثلج يتساقط من جديد.. إنه حقا ثلج ناصع البياض. - دع عنك الثلوج و الأمطار و الإعصار ، واقترب أكثر! كانت الفتاة الحسناء تنظر إليه ،و نظرتها كلها عشق. - لا يا صوفي انتظري سأعد لك عصيرا من البرتقال الطبيعي. فأخذت الفتاة تبكي، و الغضب قد سيطر عليها.. - و لماذا البارحة ؟ و تذكر مهدي مدى حرمانه في (ثارا ن – جاف)، بلدته الفقيرة، و كيف كان يتعذب لوحده في رمضان و غير رمضان، بعيدا عن الغرب وحضارته يوم كنا ننظر إلى أي فتاة تمر بنا، و الجوع يقتلنا و يحيينا، وكل حلمنا هو أن نلمس ولو يدها ، و هذا يكفينا.” يتبين لنا من كل هذا أن رواية (العودة) رمزية في مضامينها، تعكس لنا صعوبة التقاء الحضارتين: الغربيةوالشرقية؛ بسبب الاختلاف القيمي والديني والأخلاقي، وأن الغرب رمز للمادة والشهوة والرذيلة (صوفي-مريان- نتاشا)، والشرق رمز للأصالة والفضيلة والقيم المثلى، على الرغم من التفوق العلمي الذي يشهده الغرب في نواحي الحياة العلمية والمادية والتقنية: ” لم تتحدث التلفزة الفرنسية عن الحدث إلا قليلا، أشاروا إلى رؤية هلال رمضان و بداية شهر الصيام لدى الجالية المسلمة، وكان الإعلان بنوع من السخرية، في القرن الواحد و العشرين ، و نحن ما زلنا نبحث عن هلال رمضان، هنا من يقسم برؤيته، و هناك من يقول باستحالة الرؤية. فهمست صوفي: - لن أصوم هذا العام لأنني لم أر بعد هذا الهلال. فابتسم مهدي للنكتة. فكيف يمكن لنا رؤية الهلال في سماء فرنسا المظلم سحابا ليل نهار. ” إذاً، تعكس لنا هذه الرواية الصراع الحضاري بين الشرق والغرب. وما ثنائية الذكورة والأنوثة في الحقيقة إلا تعبير عن هذا الاختلاف القيمي والحضاري والعقدي، فمهدي رمز للحضارة الشرقية الروحانية، وماريان وصوفي رمزان للحضارة الغربية المادية. ولايمكن أن يتحقق بينهما التحام وترابط وجداني ؛ نظرا لاختلاف المنظومتين القيمية والعقدية والحضارية. ̧العودة إلى الجذور: تتكىء رواية (العودة) لميمون الحسني كثيرا على موضوعة العودة إلى الجذور؛ لأن رواية الهجرة التي كتبها مبدعو منطقة الريف تحمل في طياتها حنينا إلى الأرض، وتشبثا بالكينونة الأمازيغية، وشوقا إلى الوطن والأهل والأحبة. ويعني هذا أن رواية الهجرة هي رواية الاغتراب الذاتي والمكاني، تصور القلق الذي يعانيه الإنسان الأمازيغي المرتحل إلى بلاد الغربة أو المهجر. ويتجسد هذا القلق بكل جلاء في عدم التفاهم بين الأنا والآخر على مستوى الأفكار والقيم والعادات والتقاليد. ويتمظهر أيضا في ضراوة الانفصام السيكولوجي الذي تعانيه الذات المغتربة في الزمان والمكان والعواطف. وسرعان ما ينقلب الحب الرومانسي لدى الذوات العاشقة إلى شقاء ذهني ووجداني وحضاري؛ بسبب الاختلاف بين الذات الشرقية أوالأمازيغية عن الذات الغربية في مجموعة من السلوكيات والقيم والمبادىء الحضارية: ” كان الحزن قد سيطر عليه، و هو بجانب مريان، يحاول أن يتحدث عن مشروع عطلة الصيف المقبلة، و عودته المرتقبة إلي بلدته في بداية هذاالصيف، الشيء الذي كانت لا تحبذه زوجته أبدا. إنك تريد العودة إلى هناك لاكتمال حلمك الذي يستحيل، العودة إلي ديار الأجداد، والجري و راء أوهامك، وأنت أب لرضيع فرنسي الآن. وكان غضبه شديدا ذلك المساء؛ لأن السيدة بعد إنجابها لهذا الابن البريء قد تغير مزاجها ، وأصبحت تهاجمه كلما سنحت لها الفرصة.” هذا، وتترجم لنا علاقات مهدي بصوفي ومريان مدى التباين الحضاري والفكري بين الشخصيات، بل تكشف لنا كذلك مدى الانفصام الحضاري بين الشرق والغرب، فالغرب غرب، والشرق شرق، والخلاف بينهما واضح وجلي، ويبدو ذلك بينا على مستوى العلاقات العاطفية والإنسانية والسلوكية. وما زواج مهدي بزينب سوى رجوع إلى الأصل، وعودة إلى الجذور الأولى لاستكمال الإنية الحقيقية، وتحيقيق للكينونة الحضارية المثلى التي لايمكن تشطيرها إلى كائنين غريبين، فلابد من التماثل بين الذوات لكي تندمج في عالم متشابه من حيث العادات والأعراف والتقاليد. ̧الخصائص الفنية والجمالية: تعد رواية (العودة) لميمون الحسني نصا أوطوبيوغرافيا مقنعا بضمير الغائب. بمعنى أن الكاتب يختفي وراء شخصية مهدي، فثمة مجموعة من القواسم المشتركة بين هذه الشخصية وشخصية الكاتب(ميمون الحسني)، كالهجرة إلى فرنسا لطلب العلم، واستكمال دراساته الجامعية العليا، والحصول على الدكتوراه في الطب ، والاستقرار (بثارا ن- جارف). وتلمح كل هذه الأدلة والمؤشرات إلى وجود مطابقة بين الشخصية الرئيسة والكاتب، مهما اختلف اسم العلم. كما يستند هذا الخطاب السيري أو الأطوبيوغرافي إلى استرجاع ذكريات الماضي، ورصد تجارب الشخصية المحورية في الزمان والمكان، معتمدا في ذلك على المحكي الاسترجاعي. هذا، ويشتغل الكاتب على حبكة العودة من خلال تخطيبها في برنامج سردي قائم على ثنائية الهجرة والعودة. وتتخلل هذه الحبكة الواقعية مقاطع سردية رومانسية تراجيدية ، تترجم لنا ثنائية الذكورة والأنوثة، وجدلية الأنا والآخر. ومن جهة أخرى، يستند الكاتب إلى الرؤية المحايدة أو الرؤية من الخلف؛ لوجود ضمير الغائب، والسارد المحايد الذي ينزل إلى درجة الصفر، وهو يملك معرفة مطلقة في الحكي والسرد والوصف والتقويم، تجمع بين ماهو خارجي وماهو نفسي داخلي. وعليه، فالرواية حدثية بامتياز؛ لأنها مليئة بالأحداث السردية ، وذلك على حساب الوصف. بمعنى أن النمط السردي يغلب على النمط الوصفي.لذا، يقل الوصف في الرواية، ويتسم بالاقتضاب والتكثيف والاختصار: ” و تعود ذكريات (ثارا ن – جاف) تلاحقه حتى في أقصى ديار الغربة .. لماذا مريان؟ و لماذا لا ؟ و لماذا ؟ فسيان عندهم في الجبل … تعويض شقراء بشقراء أخرى لا مغزى له بتاتا… لماذا لا يتخذ ابنة خاله”زينب” ذات العيون الجميلة، و الشعر الكثيف، و القامة الطويلة، و البسمة المعبرة، ليرضي بذلك طلب الجميع .. الأم الجدة و العموم و الأخوال والإخوة و الأخوات و كل الجيران… هذا، ويتأرجح أسلوب الرواية بين السرد والحوار والمناجاة الداخلية. كما تمتاز اللغة بطابعها التشخيصي الواقعي، واستثمار الخطاب الديني، والخطاب التربوي، والخطاب العاطفي، والخطاب الرسائلي، والخطاب العلمي… بمعنى أن الرواية منفتحة ومتعددة الخطابات تناصا وتفاعلا وحوارا. لكن ما يميز هذه الرواية بصفة خاصة، والرواية الريفية بصفة عامة، هو استخدامها لجمل وتراكيب وتعابير ريفية وأمازيغية محلية، نشتمها من خلال قرائتنا لحوارات الرواية، ومشاهدها الدرامية، وخطابها السردي. كما يبدو ذلك واضحا في هذا المقطع السردي الممزغ:” و كان الجيران يتساءلون عن هاته العودة غير المرتقبة في فصل الشتاء، و هم يعرفون حق المعرفة أن الرجل قد خطب زينب ابنة الخال، و هو يعد لوازمه ، ولم يراها إلا في اليوم الثالث من استقراره، هناك حيث حضرت مع الخال، و هي محتشمة، و مبتسمة، فرحة، و خجولة في فستان أخضر فضفاض وإزار ، وذلك بعد الأمطار الغزيرة ، و مسافة قصيرة مما جعل قدومهم مشيا قد وسخت الأوحال نعليها، و اكتفت بالمشي بجواربها الصفراء الصوفية، وقد أخفت شعرها بحجاب أبيض ملائم… كانت الأشياء تتمشى بسرعة كبيرة …ثم تتحول الأشياء إلى معقول بدون سابق إنذار، ثم ولولة النساء.” وعليه، من يتأمل هذا المقطع السردي، فإنه سيلاحظ بلاشك مدى أمازيغية التراكيب والجمل والتعابير، مثل: (تتحول الأشياء إلى معقول).فهذه الجملة لها دلالة أمازيغية من حيث المعنى والسياق التداولي. ويعني هذا أن خاصية التمزيغ خاصية إيجابية تميز الرواية الريفية الأمازيغية عن نظيرتها العربية بالمغرب. تركيب واستنتاج: تتميز رواية (العودة) لميمون الحسني بانتقالها من رؤية انبهارية، تعترف بتفوق الغرب وتقدمه علميا وفنيا وتقنيا ، إلى رؤية انتقادية للمنظومة الحضارية الغربية القائمة على النزعة المادية والإباحية والعبثية. وقد تجسد هذا الانتقاد لهذه الحضارة الغربية المادية، حينما تصور الرواية العلاقة الرومانسية بين مهدي وصوفي ومريان ، والتي انتهت بالفشل والانفصال والانفصام؛ بسبب تباعد الشخصيات ذهنيا ووجدانيا وقيميا وحضاريا، بله عن انفصال الشرق عن الغرب، فلا الغرب شرق ، ولا الشرق غرب، فبينهما هوة شاسعة على مستوى المعتقد والحضارة والقيم . وإذا كانت رواية (العودة) لميمون الحسني رواية حضارية تطرح جدلية الأنا والآخر من جهة، فإنها رواية الشوق والحنين إلى الجذور من جهة أخرى؛ لأنها تعكس لنا بكل جلاء قلق الاغتراب الذاتي والمكاني لدى الإنسان الأمازيغي المهاجر. 1 – ميمون الحسني: العودة، رواية، مطبعة Ayne Print، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى 2013م. 2 – سهيل إدريس: الحي اللاتيني، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، طبعة 1953م. 3 – الطيب صالح: موسم الهجرة إلى الشمال، دار الآداب، بيروت، لبنان، طبعة 1976م. 4 – توفيق الحكيم: عصفور من الشرق، دار مصر للطباعة، القاهرة، طبعة 1988م. 5 – طه حسين: الأيام، الجزء الأول، دار المعارف، القاهرة، مصر، الطبعة الثالثة والعشرون، سنة 1976م. 6 – يحيى حقي: قنديل أم هاشم، دار المعارف، مصر، القاهرة، الطبعة التاسعة، سنة 1995م.